قراءة موسعة في كتاب “سوسيولوجيا الهويةجدليات الوعي والتفكّك وإعادة البناء” للدكتور عبد الغني عماد

قراءة موسعة في كتاب “سوسيولوجيا الهويةجدليات الوعي والتفكّك وإعادة البناء” للدكتور عبد الغني عماد

بقلم بول شاوول نشرت على اربع حلقات في جريدة المستقبل
صدر عن «مركز دراسات الوحدة العربية»كتاب تحليلي، يتوغل في مسائل الهوية، وطبقاتها، وأجوافها، وميادينها بعنوان «سوسيولوجيا الهوية، جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء» للدكتور عبد الغني عماد (أستاذ وعميد سابق في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، وصدر له نحو 38 كتاباً منها «حاكمية الله وسلطان الفقيه، قراءة في خطاب الحركات الاسلامية المعاصرة» و«ثقافة العنف في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية»، “اسلاميو لبنان: الوحدة والاختلاف على أرض المستحيل”.

يناقش هذا الكتاب المعزز بالفهارس والمصادر، والمراجع، وبكتب أكاديمية حية «إشكاليات سوسيولوجية الهوية والمقاربات المختلفة حولها، التي أصبحت اليوم تخصصاً علمياً وأكاديمياً في الكثير من الجامعات، ويطرح رؤيته لما آلت إليه الهوية والثقافة في عالم يزداد تعولماً وتفككاً، وهو يتجلى في أكثر من مكان، وعلى نحو كارثي على الوطن العربي حيث انفجرت عصبيات، وتضخمت هويات طائفية ومذهبية واثنية وتحولت ما يشبه«الوعي القطيعي»، حتى بدأت تتحول سياجاً لا يسمح للعقل بأن يخترقها ولـ«الجماعة»بأن تخرج منها”.

هنا الجزء الأول، من المقدمة التي تعرض طرق معالجة هذه القضية وظواهرها وأنماطها، وضعها الدكتور عبد الغني عماد.

ب.ش

عندما ينحصر مفهوم الهوية الثقافية في الإرث الثقاقي يؤدي ذلك بالضرورة الى إمكان بناء صور بيانية للسمات والأنماط والوظائف والتصرفات الفردية والجماعية التي يمكن اعتبارها لصيقة بحاملي الهوية بصورة نهائية. ذلك أن بعض الخاصيات الثقافية، والمختلفة من بيئة ثقافية الى أخرى، يمكنها أن تنتقل كإرث الى الفاعلين الاجتماعيين. فالسيرورات الأولية لعملية إدماج الفرد في الثقافة وتكيفه الاجتماعي تكون ضامنة لكسب هوية موروثة، وهي بدورها تضمن الحفاظ على الثقافة ونقلها الى الأجيال اللاحقة بحيث تتحول الهوية بسهولة الى مماثلة تعمل بنمط البصمة شبه وراثية. فهل نحن فعلاً أمام مسار محدد لتشكل الهوية (الضبط الاجتماعي، التمثل، الاندماج..) بما يجعلها كافية للتنبؤ أو التوقع بمسارات وسياقات الفعل الاجتماعي والسلوك الفردي؟ واذا كنا أمام مسار سوسيولوجي محدد لتشكلها فهل نحن والحال هذه أمام مسار مشابه لتفككها؟ وهل تضع هذه المقاربة الهويات الثقافية في أنماط حتمية يسودها نظام مغلق؟

الإجابة الوظيفية البسيطة تقودنا الى نتيجة مهمة وهي أن الفعل الانساني ليس عشوائياً وهو يستجيب لنوع من النظام في أي مجتمع، لأنه ببساطة يخضع لديناميات الضبط والتنظيم، لكن هذه الاجابة التبسيطية تطرح اشكالية الحرية الإنسانية كما تطرح إشكالية التجديد والإبداع والتغيير وهذا يقود لمنطق يصبح معه التطبيع والامتثال قانون الحياة ونظام الطبيعة الحتمي، وليس الأمر في الواقع الاجتماعي كذلك، ما يعني أننا بحاجة الى إجابة مركّبة وجدلية يمكنها أن تقدم تفسيراً علمياً أكثر دقة.

في الواقع لا يمكن اختزال حركة الثقافة والمجتمعات بسهولة الى مماثلة بسيطة، ذلك أنها ليست جامدة أو ميكانيكية، إذ تعترضها صراعات التغيير وديناميته، وحصيلة تلك الصراعات بالتالي قد تكون «توفيقية» أو «تركيبية» حسب طبيعة المجتمعات والجماعات، ما يجعل النتيجة العامة دينامية وتفاعلية. وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية ينظر الى الفرد بوصفه فاعلاً اجتماعياً يؤثر ويتأثر، يفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محددة. يتعلق الأمر إذاً بفهم طبيعة وأنماط الفعل وردود الفعل التي يسهم الفرد، كفاعل اجتماعي في صناعتها وتعديلها. وعليه يتركز التحليل في فهم الطريقة أو الاستراتيجية التي ينتج بها الأفراد، خيارات «الانتماء» و«الولاء» ويقومون بتأكيدها. فانتماء الأفراد، كفاعلين اجتماعيين الى مختلف التشكيلات الاجتماعية لم يعد يُعد كمعطى طبيعي فقط، ذلك أن الأفراد يشاركون الى حد ما في تكوين حالات انتمائهم الاجتماعي، فيبنون ويوزعون المعاني التي تؤسس تماثلهم المشترك، والتي يظهرون من خلالها الفروق البيفردية التي هي أساس التفاعلات الاجتماعية والثقافية.

مع هذا التصور الدينامي للثقافة تدرك الهوية بحد ذاتها كديالكتيك إنساني واجتماعي، فهي في ضوء هذه المقاربة سيرورة تكوّن نسقاً ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع آخرين بالوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه، الموروث والسائد، حيث يتطورون معاً. وعليه تتحقق الهوية كسيرورة جدلية بالمعنى التكاملي للأضداد، إذ تجيز بروز الفروق الفردية (تميّز الذات) ومطابقة الفرد مع الجماعة، تلك التي ينتمي إليها و/أو تلك التي يرجع إليها. في ضوء هذه المقاربة يمكن فهم وكيف يصبح الفرد عاملاً في بناء ثقافته وفي بناء هويته الذاتية في هذا الوقت، وكيف يكوّن هؤلاء أنظمة ثقافية جماعية تتخطاهم كأفراد من خلال قدرتها على إعادة إنتاج نفسها.

الثقافة بالضرورة هي نتاج إنساني يتصل بالفاعلين الاجتماعيين وتصرفاتهم فيما بينهم. ولا يمكن الخلط بين ما فيها من جوهر متعالٍ مع جهة وسببي تفاعلي من جهة أخرى، وبالتالي فإن توضيح الروابط الجدلية بين الأفراد والجماعات خاضع بدقة للشروط الموضوعية التي تتحقق بها هذه الديناميات التفاعلية. بهذا تكون الدراسات السوسيولوجية المقارنة ذات قيمة معرفية وعلمية كبيرة، فمن خلالها يمكن ملاحظة آثار السياقات والمتغيرات التي تتدخل في تحديد مواقف الأفراد والجماعات وسلوكياتهم الثقافية. كذلك فإن تحليل ظروف التفاعلات والاتصالات البين – ثقافية بين الأفراد والجماعات يكشف غالباً عن تباين الرموز الثقافية ونسبية الحقائق، التي سبق اعتبارها طبيعية وبديهية، بل وحتى عالمية، وهي حقائق غالباً ما تبقى غير ظاهرة كلما كانت مألوفة بالنسبة الى أولئك الذين يعيشونها يومياً. وعليه يشتغل ديالكتيك الهوية وتظهر حركيته بوضوح في ظروف الاحتكاكات الثقافية، التي ازدادت فعاليتها وتعمقت مع اجتياح حركة التدفق الثقافي المتعولم المجتمعات المحلية، وبخاصة أن هذه الاحتكاكات لم تعد متأتية من مصدر خارجي صافٍ، إذ يظهر تنوعها بوضوح في كل مجتمع من مجتمعاتنا الحديثة المعقدة اليوم، حيث يتجاور ويتفاعل التقليدي والحديث في البنية المجتمعية الواحدة وهو ما يولد الكثير من الديناميات والصراعات.

تقودنا الإجابة الجدلية المركّبة الى ملاحظة التناقضات الواقعة في كل مجتمع، حيث تتضح الفروق بسهولة بين النماذج الثقافية الموروثة وبين السلوك الواقعي، بين الهوية الثقافية وبنيتها «المعرفية المعيارية» من جهة وبين الفعل الاجتماعي بوصفه حصيلة تفاوض ورهانات، وهذه عملياً نادراً ما تتطابق بالسهولة أو بالكمال اللازم، فدائماً هناك من يستوحي المثل من النماذج، وهناك من يقيم سلّماً من المعايير يبتدئ من النماذج التي تحتل المثال الأسمى الى النماذج الأكثر «واقعية» وأكثر سهولة في التطبيق. لذلك لا تستدعي الهوية الثقافية ونماذجها السائدة الدرجة نفسها من الامتثال والتوافق، فمنها يصنف في دائرة (الإلزامي أو الاختياري، أو الحرام أو الحلال، أو العيب أو المقدّس…)، وتتفاوت تبعاً لذلك المواقف ودرجات التباين وطرائق التعبير عنها، من مجتمع لآخر، ومن هذا التفاوت والتباين يولد التنافس والصراع.

في مثل هذه المقاربة لا يمكن دراسة تشكّل الهوية وحركتها وانبنائها من خلال مقاربة سكونية، أو تصور متجانس يمكن أن يكون قابلاً للجدل والتأويل. فالفاعل الاجتماعي تواجهه بالضرورة مسألة «الغيرية» في صراعه مع متطلبات عملية تشكل الهوية. يجب إدراج هذه العلاقة بين الهوية والمغايرة بالتحديد ضمن السيرورات الاجتماعية – الإدراكية التي تغذي الهوية. فالموقف الاجتماعي ذاته لا يعاش بالطريق نفسها عند فاعلين اجتماعيين متحدرين من مجموعات إثنية أو طائفية أو مذهبية متباينة من حيث الحجم الديمغرافي أو الدور في النظام الاجتماعي العريض. فالمعايير والقيم، كما ردود الأفعال، غالباً ما تكون في المجتمعات التقليدية كما في المجتمعات الخاضعة لأنظمة تسلطية مختلفة تماماً عما هي عليه في المجتمعات الحديثة والأنظمة الديمقراطية، ورهانات حامليها ليست متجانسة أو متشابهة، وصراعات المصالح تتشابك مع صراعات القيم لتعقيد سيناريو لا يمكن اختزاله بتصور محدد في المجتمعات المتنوعة.

لكن جدلية التنافس والصراع لا تركن لحدود، خاصة عندما تستشعر الهوية مكامن الخطر، فتتحول بعض مكوناتها الى معطى أيديولوجي ضمن سياق الهوية الثقافية يتمثل بتيارات وقوى محافظة (سلفية وأصولية ويمينية..). وهكذا تصبح حركة الأفكار والهويات في تحولها الى أيديولوجيا، منظومة فكرية لها تنظيمها الذاتي ودفاعها الذاتي، الذي يتسم بصفة توليدية تجعله قادراً على إعادة إنتاجها وحمايتها. يشرح إدغار موران الأمر على هذه الصورة: كل منظومة فكرية هي مغلقة ومفتوحة في آن، مغلقة بمعنى أنها تحمي نفسها ومفتوحة بمعنى أنها تغذي التأكيدات لصالحها. وهي على نوعين منظومات يتصدر فيها الانفتاح قبل الانغلاق (وهو ما ينطبق على النظريات)، ونوع آخر يتصدر فيه الانغلاق ويطلق عليه المذاهب (الأيديولوجيات)، لكنه يشير الى أن كلا النوعين يحتوي على نواة صلبة من مبادئ خفية تمثل «براديغمات» تحدد قواعد تنظيم الأفكار، وتحتوي على المعايير التي تشرعن حقيقة المنظومة وتختار المعطيات الأساسية التي تستند إليها، وتحدد بالتالي استبعاد وجهل ما يتعارض مع حقيقتها، ويفلت بالتالي من معاييرها ما يخالفها ويلغي ما بدا لها، انطلاقاً من بديهياتها ومبادئها ومسلّماتها، ما يعني بوضوح أن كل منظومة فكرية تحتوي في نواتها على منطقة عمياء.

وإذا كانت المنظومة الفكرية بصيغتها الهوياتية الثقافية العامة، يتصدر فيها الانفتاح، وتتقبل النقد الخارجي وفق القواعد التي تحددها، فإن الأيديولوجيا كمنظومة فكرية ترفض المعارضة وتحتاج الى أن تتغذى بالتحققات والتأكيدات وتختار العناصر والأحداث المؤيدة، فتدقق فيها بعناية وتُخضعها لتصفية لا تبقي منها إلا القابل للاستيعاب. وربما تميل كل المنظومات الفكرية الى أن تتغذى بالرغائب والتطلعات والمخاوف والتهوسات لدى البشر، لكن الأيديولوجيا مشدودة دائماً إلى اليقين والرغبة في المطلق والبحث عن الكلمة الفصل في نصوص الآباء المؤسسين للمذهب ا لايديولوجي الذي لا يلبث أن يتحول إلى نصوص دوغمائية خالية من الروح، يغلب عليها التحجر.

وعليه فإن تشكل الهوية هو حصيلة تفاعلات وصراعات اجتماعية، ولأن الجماعات لا تملك قوة التماثل والفعالية نفسها، ولأن قوة التماثل والفعالية هذه ترتبط بالوضعية التي تحتلها الجماعة في منظومة العلاقات التي تربطها بالمجموعات الاخرى وفي ما بينها من جهة، وبين السلطة من جهة أخرى، فإن القدرة على تصنيف الذات وتصنيف الآخر ليست مطلقة ونهائية. ولبيار بورديو في هذا المجال مقالة عنوانها «الهوية والتصور» يقول فيها إن من يملك السلطة الشرعية، هو القادر على فرض تعريفه لنفسه ولغيره. يعني هذا ان مجمل تعريفات الهوية التي يكتسبها الفرد، وبالتالي الجماعة، يعمل كمنظومة تصنيف تحدد المواقع المتتالية للجماعات والأفراد. والسلطة الشرعية تملك القوة الرمزية لجعل الآخرين يعترفون بمقولاتها وتعريفها، من هنا قدرتها على تشكيل الجماعات وتفكيكها..
جريدة المستقبل الجمعة 23 حزيران 2017 – العدد 6103 ص 13

قراءة في كتاب “سوسيولوجيا الهوية”للدكتور عبد الغني عماد جدليات الوعي والتفكّك وإعادة البناء (2)

وبصفة أعم يمكن لمفهوم الاستراتيجية أن يفسر تنوعات الهوية وهو ما يمكن تسميته انتقالات الهوية، وهذا المفهوم يبين نسبية ظواهر التحقق، حيث تبنى الهوية وتتفكك ويعاد بناؤها تبعاً للحالات، انها دائمة الحركة، وكل تغير اجتماعي يقودها الى اعادة صياغة نفسها على نحو مختلف.

يناقش إرنست غيلنر في أن الهويات القومية في الواقع ليست أشياء تولد معنا، وانما هي تتشكل وتتحول ضمن مسار معقد، ومرتبط بالعلاقة بعمليات التمثل (Representation). اننا ندرك فقط ماذا يعني ان تكون عربياً أو مسلماً أو انكليزياً بسبب الطريقة التي نتمثل بها هذه الهويات الثقافية بوصفها نظاماً من المعاني. يستتبع ذلك ان الأمة ليست كياناً سياسياً فقط، انما هي أيضاً شيء ينتج معاني، أي انها نظام من التمثل الثقافي. ما يعني ان الناس ليسوا فقط مواطنين قانونيين في أمة؛ بل انهم يتشاركون في فكرة الامة كما هي متمثلة في الثقافة القومية. الأمة هي جماعة رمزية، وهذا هو الامر الذي يفسر سلطتها في توليد حس الهوية والولاء والانتماء. يذهب بندكت أندرسن إلى أبعد من ذلك وبروح انتروبولوجية يقول في بحثه الشهير ان الامة «جماعة سياسية متخيلة، حيث يشمل التخيل انها محددة وسيدة أصلاً». ومع ذلك فهذه الجماعة المتخيلة هي ما مكّن ملايين كثيرة من البشر، خلال القرنين الماضيين، لا من أن تقتُل وحسب، بل من أن تموت راضية أيضاً في سبيل هذه التخيلات المحددة. الجماعة المتخيلة عنده ليست جماعة خيالية، بل حقيقية وواقعية، لأن فعلها وتأثيرها واقعي ويجري تخيله بأدوات واقعية، فالناس لا يتخيلون شيئاً من العدم، فالمتخيل يتشكل بهذه الادوات من عناصر قائمة بالفعل (التمايز اللغوي، الديني، العرقي، خصائص الاقليم وغيره على سبيل المثال..)، وهو يذهب في هذا المجال إلى التمييز بين المتخيل والخيالي منتقداً مقاربة غيلنر التي تدفع نحو تحولها من «اختراع» إلى «تلفيق» وزيف، فيقظة الأمم على وعي ذاتها عنده لا تعني ان القومية تخترع الامم حيث هي هوية لا وجود لها.

هذه المواضيع وما تضمنته من اشكاليات ومراجعات ومناقشات تشكل محور فصول هذا الكتاب الذي بني على أحد عشر فصلاً. في الفصلين الأول والثاني جدليات الهوية والثقافة والوعي بدءاً بالمقاربة الماركسية والتأصيل الايديولوجي بحثاً عن هوية عالمية جديدة، وصولاً إلى التفكيك السوسيومعرفي والاتجاه النقدي. وفيه مناقشة للمداخل التأسيسية لمفاهيم الهوية والوعي على المستوى المعرفي ومن منظور الماكروسوسيولوجي، كما يجادل في المقاربات التحليلية على مستوى الميكروسوسيولوجي في عملية حفر معرفي شملت مفهوم «الوعي الجمعي» مع إميل دوركهايم، وجدليات الايديولوجيا والطوبى والأفكار كمنظومات مع كارل مانهايم وصولاً إلى سيرورات الوعي والهوية والانبناء وفق منطق الهابيتوس مع بيار بورديو.

وقد شكل موضوع الثقافة والديناميات البانية للهوية محور الفصل الثالث الذي ناقش دور اللغة من جهة، ومفهوم الشخصية الأساسية من جهة ثانية، كمدخل لفهم سيرورات الثقافة مع الاتجاه الذي دشّنه سابير وعمقته أعمال بندكت وميد ولينتون في مقاربة مختلفة عما ساد مع أعمال مالينوفسكي الوظيفية بوصفه الثقافة استجابة للحاجات، واستطراداً مع مقابل راد كليف براون البنيوية من جهة اخرى ومقاربة بأعمال وأبحاث بواس وهرسكوفيتش حول الخصوصية التاريخية في الثقافة وعمليات المثاقفة وعلاقتها ببناء الهوية.

أما موضوع الدين والتدين والأقليات فقد وضع في الفصل الرابع قيد الفحص والتحليل الموسع بوصفه منتجاً لديناميات القلق واليقين في قلب الجماعات والمجتمعات من جهة، وللدور والمحمول الرمزي الذي ينتجه ويحركه في عمليات الانبناء والتشكل والتفكك الهوياتي من جهة اخرى. يكشف هذا المحور عن الديناميات الفاعلة في حركية اليدين والتدين وعلاقتها بالطقوس والشعائر المغذية للمخيال الهوياتي، وبخاصة على مستوى الجماعات والأقليات، ويناقش في الترابطات السوسيولوجية بين الدين والثقافة والهوية مستفيداً من أبرز الأدبيات السوسيولوجية في هذا المجال واضعاً محصولها على مشرحة النقد والتفكيك في محاولة لتفسير ظاهرة الأقليات وما تنتجه من ديناميات وأنماط من عمليات الاندماج والتفكك، أو الانقسام والتوحد، والائتلاف والاختلاف، وما يرافق ذلك من أعراض سوسيولوجية وثقافية.

في المقابل يقدم الفصل الخامس اطاراً نظرياً يناقش جدلية الوعي والمعرفة والفعل، وبالتالي البراديغم المعرفي المحرك لعمليات التوليد والاقصاء، والولاء والانتماء الهوياتي. في حين يحفر الفصل السادس في المجال الهوياتي واشكاليات التصنيف والانتماء، والاستراتيجيات المتولدة في هذا التحرك، مناقشاً آليات صعود الهويات واستراتيجيات انتاج المعنى ومفهوم «الجماعات المتخيلة» بوصفها حقيقة متعينة من خلال اعادة تأصيل مفهوم «السردية التاريخية» ودورها في بناء «الذاكرة الجمعية» الهوياتية.

يتركز التحليل في الفصل السابع على التداعيات التي أصابت الثقافة بوصفها بانية أشكال الهوية ومحتوياتها ويناقش في النماذج التفسيرية الجديدة الكاشفة لمصادر ومسارات حراك الهويات على تخوم العولمة، بدءاً بالمفهوم الدينامي مع ستيوارت هول، والهوية كنتاج اجتماعي لعلاقات القوة مع ريتشارد جينكينز، وانقلاب العالم وتغير صورته مع برتراند بادي. ويتابع الفصل الثامن هذا المحور على مستوى المايكرو، فيحفر في المجال التواصلي وآليات بناء وتفكك المجال العام «الهابرماسي» في ضوء صناعة الإعلام والإنفوميديا وفضاء التدفقات والمجتمع الشبكي، وبالتالي عمليات تشكل الجماعة والفرد وإعادة تعريف كل منهما في ضوء أو من خلال «التشبيك» وتداعياته.

يذهب الفصل التاسع إلى تفكيك منطق التعصب والتطرف الهوياتي، فيتعمق بتحليل دينامية الجماعة و«الآخر» وعمليات الاستثمار في الكراهية، مفككاً العقلية الدوغمائية القائمة على وهم امتلاك الحقيقة المطلقة من خلال دراسة تجليات التعصب الهوياتي كعمليات تنميط واعية ولا واعية، متابعاً البحث في هذا المحور في الفصل العاشر الذي يطرح اشكالية الاندماج الاجتماعي وصناعة «الهويات الصلبة» والمقاربات التفسيرية المختلفة في مجال العلوم الاجتماعية.

يقدم الفصل الحادي عشر مقاربة سوسيولوجية لفهم ودراسة الهوية العربية في مساراتها المعاصرة، بوصفها هوية متنازع عليها من جهة، وتشهد تحولات دينامية في سيرورات نحو التشكل والتفكك وإعادة البناء من جهة أخرى، وهو إذ ينطلق في مقاربته من القول بأن «الأفكار»، وإن كانت من أكثر المنتجات القابلة للانتشار، إلا أنها ليست المعطى الوحيد لتشكيل الهويات. صحيح ان الهويات تحتاج إلى أفكار حية ولا تعيش من دونها، وقد تلجأ إلى القديم منها أو الميت، لتبث فيه الحياة من جديد، لكن هذا لا يكفي، فهي تحتاج دائماً إلى مغذيات وحواضن اجتماعية واقتصادية لكي تكتسب طاقة سياسية محركة، وتتحول إلى قوة تغيير حقيقية، وبالتالي، فإن الوعي بـ«الهوية» لا يأتي بالمطلق من خارج المجتمع أو من خارج سياق التاريخ، فهي لا تهبط من كوكب آخر ولا تأتي من خارج الزمن. فالهوية حركية مستمرة في التاريخ، تكتسب المعنى والمضمون كتجربة انسانية خاضعة لصيرورة العيش ولديناميات الصراع وتحديات الواقع. إنها معطيات وعوامل تمنح الإنسان بصفته الفردية، والمجتمع كاطار تفاعلي للجماعة، الشعور بالمعنى والوجود والانتماء والمصير المشترك، بما يضمن استمرارية الجماعة ويحمي كيانها. وحين يضعف هذا الشعور ويسير في طريق الاضمحلال والضمور، تواجه الجماعة مصير التفكك والانقسام نحو العصبيات والانتماءات الاولية. إن شيئاً من هذا أصاب الهوية العربية في الصميم، الأمر الذي يطرح عدداً من التساؤلات حول الاسباب التي أدت إلى ذلك؟ وهل هي أسباب عرضية أم جوهرية؟ هل هي أسباب موضوعية تتعلق بالبنية الثقافية والاجتماعية العربية بحد ذاتها أم داخلتها واختلطت معها أسباب وعوامل خارجية، دفعت بالوعي العربي نحو منحدر هوياتي طائفي ومذهبي وإثني وقبلي، يعود إلى إحياء كيانات ما قبل الدولة الوطنية؟

تلك هي بعض الأسئلة والاشكاليات التي حاول هذا الكتاب مناقشتها واخضاعها للتحليل والقراءة، ضمن مشروع بحثي يتخطى تأصيل المفاهيم التحليلية في الأدبيات السوسيولوجية واستعراض المقاربات النظرية المتعددة في هذا المجال، ويطمح نحو توظيف المناسب منها واستخدامه كأدوات منهجية وتفسيرية تساعدنا على التبصر في أحوالنا ومصائرنا.
جريدة المستقبل الأربعاء 28 حزيران 2017 – العدد 6106 – صفحة13

قراءة في كتاب “سوسيولوجيا الهوية” للدكتور عبد الغني عماد الهوية العربية .. إشكالية التشكّل والتفكّك (3)
صدر «سوسيولوجيا الهوية، جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء» للدكتور عبد الغني عماد (عن «مركز دراسات الوحدة العربية» (بيروت)، وهو بحث مستفيض، ومعمّق، وتفصيلي، ومفرّع، يبحث فيه سؤال الهوية والثقافة.

ويناقش إشكاليات سوسيولوجيا الهوية والمقاربات المختلفة حولها، والتي أصبحت اليوم تخصصاً أكاديمياً في كثير من الجامعات، ليطرح رؤيته لما آلت إليه الهوية والثقافة في عالم يزداد تعولماً وتفككاً، وهو ما تجلى في أكثر من مكان، وعلى نحو كارثي في الوطن العربي حيث انفجرت عصبيات، وتورّمت وتضخّمت هويات مذهبية وإثنية، وتحوّلت الى ما يشبه «الوعي القطيعي»، لتتحول الى سياج لا يسمح للعقل باختراقها، ولـ»الجماعة» بأن تخرج من طوقه.

د. عبد الغني عماد، أستاذ وعميد سابق في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، صدر له نحو 38 مؤلفاً منها «حاكمية الله وسلطان الفقيه» (1998 و2005)، «ثقافة العنف: في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية» (2001)، «صناعة الإرهاب» (2003)، «الحركات الإسلامية في الوطن العربي» (2013)، «الهوية والمغايرة، السلفية والسلفيّون في لبنان» (2015).

ونفهم من خلال هذه الأبحاث والكتب الموجّهة نحو القضايا والإشكاليات، وحتى المعضلات، أنّ الباحث، يتمتع بثقافة سياسية وفكرية وسوسيولوجية وافية، تمحضه ثقة في تناول مثل هذه المواضيع الشائكة، والمركّبة، والمتداخلة والمتناقضة.
وفي فصول كتابه هذه نلمس هذه المراجعات التحيليلة والنقدية، ليس من منظور علمي حيادي موضوعي فقط، وإنما في اعتبار كل هذه المشكلات جزءاً من الانهيارات العربية، والأشكال القومية – الإيديولوجية – وبنيات الوحدة، والشرذمة، والتفكك، والانفجارات المدويّة لغرائز، ومكنونات، تحت سقوف ما يُسمى الهويات الدينية، أو الإثنية، أو القبلية، أو المذهبية.

كتاب جدير بأن يُقرأ وبإمعان كمرجع مهم.

هنا ننشر حلقتين من الكتاب من الفصل الحادي عشر، الهوية العربية، إشكالية التشكل والتفكك.

ب.ش

لا تستمد الهوية ماهيتها من ذاتها فقط. بل من المفارق لها، أي مما ينفصل عنها وليس فقط مما يتصل بها. لأنه ببساطة لا معنى لمطلب الهوية بمعزل عن التنوع والتميز والاختلاف المتمثلين بالآخر. وحين كتب خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي النصوص الإصلاحية التأسيسية الأولى في الفكر الإسلامي، ووضع جمال الدين الأفغاني أسس هذا التيار مطلقاً مشروعاً تحررياً عقلانياً وداعياً إلى الجامعة الإسلامية؟ وحين دشّن تلميذه الإمام محمد عبده معركة الإصلاح الديني وأطلق الكواكبي معركة «القضاء على الاستبداد وثقافته» في كتابه الفريد طبائع الاستبداد. هذا فضلاً عما مثلته مجلة المنار ورشيد رضا من إضافة وإغناء لهذا التيار الإصلاحي؟ حين كتب هؤلاء نصوصهم منذ أواسط ‏ القرن التاسع عشر وقبله بقليل. كان التاريخ في هذه المنطقة يتحرك على وقع الصراع مع «الآخر» الطامع باقتسام تركة الإمبراطورية العثمانية التي أصابها الضعف والتراجع.

وحين كتب حسن البنا نصوصه التأسيسية مطلقاً الحركة الإسلامية المعاصرة، لم يكتب ما كتبه مفصولاً عن أزمنة ومسارات ذلك الزمن الذي مثل فيه إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924 صدمة كبرى، اعتبرها هو وغيرها طعنة خطيرة أصابت الهوية الإسلامية و»أخطر حدث في حياة الإسلام والمسلمين، فللمرة الأولى سقطت الخلافة بعد أن اتصلت حلقاتها ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن.

كذلك حين كتب ساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشيل عفلق نصوصهم التأسيسية في الفكر القومي العربي، لم يكن ما كتبوه بطبيعة الحال مفصولاً عن سياق العصر الذي عاشوه وتحدياته الهائلة التي أصابت بنية مجتمعاتنا في الصميم. والمتمعن في تلك النصوص القومية وما تلاها على العموم يجد أنها شهدت تطوراً مركّباً على أكثر من صعيد وفي أكثر من مرحلة؛ فالمشهد العثماني حينها، قدّم الإرهاصات التبشيرية الأولى بكل محمولاته القومية الطورانية التي انتهجت سياسة التتريك ونشأت فيها أحزاب تتحدث عن الأمة والقومية ببعدها التركي العلماني. ولا يمكن قراءة النصوص التأسيسية للفكر القومي العربي بعيداً عما تبع ذلك من استعمار وانتداب واستيطان صهيوني ولّد الأبعاد التحررية والوطنية والثورية، وما تلاها في مرحلة الاستقلال الوطني والدولة القطرية حيث اصطدمت الأحلام القومية الكبرى بالواقع الموضوعي. ومعه أصبح المشروع القومي أكثر تلازماً مع الموضوع الاشتراكي وقضايا التنمية الاجتماعية وتحدياتها. بعد هزيمة 1967 أصيب المشروع القومي بما يشبه الانهيار وبدأت سلسلة التراجعات البنيوية تصيب النظام العربي برمّته، حيث انتعش بعدها البديل الاسلامي.

تريد هذه المقدمة أن تقول إن «الأفكار»، وإن كانت من أكثر المنتجات القابلة للانتشار إلا أنها ليست المعطى الوحيد لتشكيل الهويات. التي لا يمكن بطبيعة الحال إلا أن تكون تعبيراً عن حاجات وأزمات سياسية وثقافية ومعرفية. فالهويات تحتاج لأفكار حيّة. وقد تلجأ إلى القديم منها أو الميت. لتثبث فيه الحياة من جديد؟ لكن هذا لا يكفي، فهي تحتاج دائماً إلى مغذيات وحواضن اجتماعية واقتصادية لكي تكتسب طاقة سياسية محركة. وتتحول إلى قوة تغيير حقيقية. وبالتالي، فإن الوعي بـ«الهوية» لا يأتي بالمطلق من خارج المجتمع أو من خارج سياق التاريخ. فهي لا تهبط من كوكب آخر ولا تأتي من خارج الزمن. فالهوية حركية مستمرة في التاريخ، تكتسب المعنى والمضمون كتجربة إنسانية خاضعة لصيرورة العيش والصراع وتحديات الواقع. إنها معطيات وعوامل تمنح الإنسان بصفته الفردية، والمجتمع كإطار تفاعلي للجماعة، الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك، بما يضمن استمرارية الجماعية ويحمي كيانها. وحين يضعف هذا الشعور ويسير في طريق الاضمحلال والضمور، تواجه الجماعة مصير التفكك. إن شيئاً من هذا أصاب الهوية العربية في الصميم، الأمر الذي يطرح عدداً من التساؤلات عن الأسباب التي أدت الى ذلك؟ وهل هي أسباب عرضية أم جوهرية؟ هل هي أسباب موضوعية تتعلق بالبنية الثقافية والاجتماعية العربية بحد ذاتها أم داخلتها واختلطت معها أسباب وعوامل خارجية، دفعت بالوعي العربي نحو منحدر هوياتي طائفي ومذهبي وإثني وقبلي، يعود الى إحياء كيانات ما قبل الدولة الوطنية؟

أولاً: الهوية القلقة والإرهاصات النهضوية‎ ‏

‏إن الفكر الإصلاحي الإسلامي ودعاة الجامعة الإسلامية «العرب» الذين أطلقوا بذور الفكر التنويري وأسسوا لمشروع إسلامي نهضوي، لم يتخلوا في مشروعهم عن الدولة العثمانية. وإنما القيادات القومية الأخيرة التي خرجت من قلب المؤسسة العثمانية أخذت في الابتعاد عن كل ما له علاقة سياسية أو ثقافية بالعرب. بما في ذلك الإسلام الذي أخذت تبتعد عنه تدريجياً في محاولة للتطبيع مع الحضارة الأوروبية. وكان من أبرز النتائج لهذا الأمر ذلك الارتباك الذي أصاب الإصلاحيين العرب. والذي يمكن قراءته في مسألتين: مسألة الانتماء القومي، والعلاقة الدينية بالعثمانيين عبر الخلافة، والتي كان إلغاء منصب الخليفة ذروتها.

والواقع أنه إذا كانت الجامعة الإسلامية قد طرحت كصيغة لـ«هوية» جامعة لإنقاذ الدولة العثمانية بكل مكوناتها السكانية في ذلك الحين. الا أنها لم تكن الصيغة الوحيدة التي طرحها الإصلاحيون الإسلاميون في ذلك الحين. فالأفغاني والشيخ محمد عبده وجدا فيها الحل المنشود بلا شك. ولكن السيد رشيد رضا، وإن كان منخرطاً في تيار الشيخين الرائدين كان له موقف من هذه المسألة تراوح بين ما سماه «خلافة الضرورة» المؤقتة وبين «خلافة الاجتهاد» التي يجب أن تمهّد لها بغية تحقيق التحام وثيق بين العرب والأتراك. وكان امتداد العمر بالشيخ رضا بعد أستاذيه، قد أحدث تحولاً بارزاً في فكره. ذلك التحول الذي لم تكن شخصية إصلاحية أخرى مثل الأمير شكيب أرسلان. الذي دافع طويلاً عن فكرته بعيداً منه. ليصبح بعد خيبة أمله بهم أكثر تمسكاً بـ«الإسلام العربي» شأن صديقه الشيخ رضاء حيث انتهى كلاهما إلى صيغة توفيقية بين القومية العربية والوحدة الإسلامية.

الأمر بالمعروف

لم يكن مشروع الجامعة الإسلامية إلا نوعاً من أنواع «الأمر بالمعروف» والموعظة الحسنة بالنسبة إلى الإسلاميين الإصلاحيين في ذلك الحين؛ ذلك أن مشروع الخلافة كان يدغدغ أحلامهم جميعاً، وصيغة «الجامعة الإسلامية» كانت بالنسبة إليهم مخرجاً واقعياً لحالة الضعف العثماني. وهي جاءت في سياق المألوف الذي ينسجم مع الذهنية الثقافية حينها، كما جاءت والسائد فقهياً وسياسياً. والذي يحدد أصول التعامل الشرعي مع الحاكم القائم بالأمر السلطاني؛ بيد أنها لم تكن الصيغة أو الجواب الوحيد. فقد سبقها وتزامن معها صيغ أخرى خالفت ما توطن عليه الفقه السني لقرون حول الموقف الشرعي الضابط لمسألة الخروج على الحاكم، والذي يفرض الطاعة لولي الأمر، ويكرس شرعية الولايات السلطانية، ويحرم الخروج والمنابذة بالسيف منذ أن كتب الماوردي «الأحكام السلطانية»، حيث استقر بعدها الفقه التقليدي على طاعة الحكام درءاً للفتنة، وصوناً للبلاد في وجه الغزاة. لقد تمثل هذا التيار الثوري في الخروج على الحاكم العثماني، حينها بالحركة الوهابية والحركة المهدية. على الرغم من أنهما تبنّيا فقهياً مبدأ الطاعة بالكامل وعمدا إلى تأصيله، وأجازا الخروج على الحاكم في حال أظهر كفراً بواحاً ظاهراً لا خلاف فيه.

ثمّة صيغتان حملهما الفكر الإسلامي في ذلك الحين تم تقديمهما على شكل مشاريع: مثّل الأول قطيعة كاملة مع الدولة العثمانية حاملاً رؤية إسلامية سلفية صافية؛ ومثل الثاني مشروعاً توفيقياً إصلاحياً اصطدم ببنية غير قابلة للإصلاح.

كان لزوال الخلافة الإسلامية، الذي ترافق مع تقاسم منظم للإرث العثماني. نتائج عديدة بعد الحرب العالمية الأولى منها الوجود المباشر لقوى الاستعمار وإرساء منظومة التجزئة في الوطن العربي. وإقامة الدول والممالك التي وضعت حداً نسبياً لفاعلية الأفكار الإصلاحية، التي بشر بها الافغاني ودفعت بمشروع الجامعة الإسلامية بعيداً، بل عطلت مشاريع الإصلاح والنهوض والتقدم التي كان يسعى إليها تلاميذه كذلك دفعت بمشروع الدولة السلفية الوليدة إلى مزيد من الواقعية. وحولتها من دعوة إلى دولة. وبذلك يكون الفكر الإسلامي قد انتقل إلى وضعية مغايرة، بحيث أصبح على مواجهة مباشرة ذات طابع هوياتي مع الثقافة الأوروبية؟ فمع زوال الخلافة الإسلامية ومرجعيتها الرمزية الإسلامية، نشطت الأفكار التي تنتسب إلى المرجعية الأوروبية؛ خصوصاً بعد التوسع الأوروبي الكاسح في المنطقة والهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية الكاملة. التي هيأت لها الظروف لتسويق جملة من الأفكار والمفاهيم التي اخترقت كثيراً من القيم الثقافية السائدة.

الدولة العربية الحديثة

مع قيام الدولة العربية الحديثة. في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ظهر واضحاً قوة التغلغل الحاصل من قبل المرجعيات الثقافية الأوروبية وحجمه؟ فهي كانت قد رسخت وجودها عبر مؤسسات وأجهزة ونظم، مستفيدة من مرحلة التنظيمات العثمانية سابقاً، ثم مع قيام الدول الوطنية جرى بناء هذه الدول واختياراتها ومسالكها السياسية والاقتصادية والدستورية والتشريعية والاجتماعية والقانونية، بل وحتى المؤسسات والنظم والهيكليات الإدارية من داخل المرجعيات الأوروبية، من دون السماح بالاستفادة من منظومة الأفكار الإسلامية الإصلاحية التي جرى تطويرها وتم تقليص تأثيرها إلى أدنى مستوى. وأبقي على قدر ضئيل منها، لتوظيفه في السيطرة على المؤسسات الدينية ومتفرعاتها، وهو ما حدث مع المؤسسات الوقفية والأهلية والدينية.

تراجع مفهوم الجامعة الإسلامية، كمشروع لـ«هوية» جامعة. والذي اكتسب زخماً واسعاً مع السيد جمال الدين الأفغاني وأخذ مفهوم الجامعة العربية؟ يتعزز، مترافقاً مع انتشار الفكر القومي في أوروبا وانبعاث الروح القومية عند العرب، وظهور فكرة القوميات في تركيا وإيران والبلاد العربية؟ فبعد أن كان مشروع الجامعة الإسلامية ينطلق من ضرورة التكامل والتوحيد بين الشعوب والقوميات من (عرب وأتراك وفرس وهنود وأفغان…)، تحول مع الخطاب القومي الناشئ إلى مشروع تجزيئي بنظر الإسلاميين يستبدل مفهوم العصبية الدينية بمفهوم العصبية العرقية أو الإثنية.

انعكس ذلك على دعوة الإصلاح الديني. التي عمل عليها الإصلاحيون الإسلاميون، بفعالية مستفيدين بذلك من تراث الحركات السلفية الطرفية السابقة لها التي انبعثت في نجد والسودان وشمال أفريقيا منذ القرن الثامن عشر. لا شك في أن سلفيات التخوم تلك (المهدية والسنوسية…) رغم عدم نفاذ دعوتها إلى العواصم والمدن الكبرى. تركت أثر كبيراً حين أضافت فكرة العودة إلى النص وهي جوهر فكرتها. لقد كان الصراع الفكري الطاحن ضد البدع وتعبيراتها من طرق صوفية متخلفة. من أجل تكريس السنّة وسلطتها المرجعية. أول مظهر من مظاهر العمل من أجل الإصلاح الديني لدى النهضويين والسلفيين معاً. وعنوانه كان مقاومة آثار الانحطاط في وعي المسلمين عند الفئة الأولى، وتطهير الدين وتصحيح العقائد عن الفئة الثانية.

لقد مثل هذا التقاءً غيرَ مباشرٍ بين المشروعين؛ السلفي والنهضوي في ذلك الحين على مستوى التطلعات، قبل أن يعودا ويختلفا، في ما بعد، حول موضوعات الاجتهاد ومحتواه، وحدود إعمال العقل والتأويل في النصوص وقضايا التحديث بتنوعاتها. بالإجمال حدث افتراق تحول الى قطيعة بين تيارين: الصحوي المعاصر من جهة؛ والإصلاحي الحديث من جهة ثانية، بينهما تمايز بالخطاب أخذ يتعمق ويتشعب تدريجياً ليطاول الإشكالية ومناهج النظر والأهداف ووسائل بلوغها رغم أن ما جمعهما هو رفض الواقع القائم، والتطلع نحو تحقيق النهضة والانبعاث الحضاري للأمة. نستطيع اليوم أن تتذكر تلك السجالات بل وأن نستحضر تراث الإصلاحية الإسلامية في نقد الخطاب السياسي الديني كثيراً من الحركات الإسلامية المعاصرة، ونقد مبرراتها، بوصفه أحد أبرز منتجات نص الإصلاح الديني منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر لنكتشف أنه نص لا يزال يفرض نفسه على الفكر الإسلامي المعاصر في مقاربة جديدة تتجاوز ذلك الاستقطاب الأيديولوجي الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين.

تتمثل إشكالية «النهضة» باعتبارها قاعدة خطاب التيار الإصلاحي الحديث الذي دشنه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا وهي بحكم طبيعتها منفتحة على التماس أسباب النهضة من كل المرجعيات والمصادر التي يمكنها أن توفر للمشروع الإصلاحي النهضوي عوامل قوة واستمرار. بينما تمثل مسألة «الصحوة» قاعدة خطاب تيار الإسلام السياسي منذ حسن البنا إلى سيد قطب وتقي الدين النبهاني وصولاً إلى تفريعات سلفية متنوعة اليوم وهي بحكم طبيعتها أيضاً تنغلق على مرجعيتها الداخلية ومصادرها الذاتية. ولا ترى في صحوة المسلمين إلا عودة إلى الأصول النقية واللحظة التأسيسية. إنها مشدودة إلى الماضي في نظرتها إلى المستقبل. على عكس التيار النهضوي الإصلاحي المتطلع إلى المستقبل مستلهماً من الماضي ما يفيد مشروعه النهضوي.
الأربعاء 2 آب 2017 – العدد 6141 – صفحة 13 جريدة المستقبل اللبنانية

قراءة في كتاب “سوسيولوجيا الهوية” للدكتور عبد الغني عماد: هوية متنازع على مرجعيتها .. الأمة والجماعة المتخيّلة (4)

صدر «سوسيولوجيا الهوية، جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء» للدكتور عبد الغني عماد (عن «مركز دراسات الوحدة العربية» (بيروت)، وهو بحث مستفيض، ومعمّق، وتفصيلي، ومفرّع، يبحث فيه سؤال الهوية والثقافة.
ويناقش إشكاليات سوسيولوجيا الهوية والمقاربات المختلفة حولها، والتي أصبحت اليوم تخصصاً أكاديمياً في كثير من الجامعات، ليطرح رؤيته لما آلت إليه الهوية والثقافة في عالم يزداد تعولماً وتفككاً، وهو ما تجلى في أكثر من مكان، وعلى نحو كارثي في الوطن العربي حيث انفجرت عصبيات، وتورّمت وتضخّمت هويات مذهبية وإثنية، وتحوّلت الى ما يشبه «الوعي القطيعي»، لتتحول الى سياج لا يسمح للعقل باختراقها، ولـ«الجماعة» بأن تخرج من طوقه.
د. عبد الغني عماد، أستاذ وعميد سابق في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، صدر له نحو 38 مؤلفاً منها «حاكمية الله وسلطان الفقيه» (1998 و2005)، «ثقافة العنف: في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية» (2001)، «صناعة الإرهاب» (2003)، «الحركات الإسلامية في الوطن العربي» (2013)، «الهوية والمغايرة، السلفية والسلفيّون في لبنان» (2015).
ونفهم من خلال هذه الأبحاث والكتب الموجّهة نحو القضايا والإشكاليات، وحتى المعضلات، أنّ الباحث، يتمتع بثقافة سياسية وفكرية وسوسيولوجية وافية، تمحضه ثقة في تناول مثل هذه المواضيع الشائكة، والمركّبة، والمتداخلة والمتناقضة.
وفي فصول كتابه هذه نلمس هذه المراجعات التحيليلة والنقدية، ليس من منظور علمي حيادي موضوعي فقط، وإنما في اعتبار كل هذه المشكلات جزءاً من الانهيارات العربية، والأشكال القومية – الإيديولوجية – وبنيات الوحدة، والشرذمة، والتفكك، والانفجارات المدويّة لغرائز، ومكنونات، تحت سقوف ما يُسمى الهويات الدينية، أو الإثنية، أو القبلية، أو المذهبية.
كتاب جدير بأن يُقرأ وبإمعان كمرجع مهم.
نتابع هنا نشر الحلقة الثانية من الكتاب من الفصل الحادي عشر، الهوية العربية، إشكالية التشكل والتفكك.
ب.ش

كان واضحاً أن أولى الانعكاسات بدأت مع تراجعات السيد محمد رشيد رضا، آخر رموز الإصلاحية الإسلامية، وهو تراجع أصاب مجمل المسائل التي قررها نهوضويو والقرن التاسع عشر حول الاجتهاد وعلاقة الديني بالسياسي، والاجتماع المدني وموجبات تطويره… إلخ وكانت ذروة تعبيره عن ذلك التراجع، انفصاله عن منظومة الفكر السياسي الحديث، وموضوعة الدولة الوطنية التي أخذ بها الإصلاحيون منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر مع الطهطاوي، ثم مصالحته مع المنظومة الشرعية التقليدية، خاصة مع الماوردي وابن تيمية، وإعلانه مشروع الخلافة بالصيغة التقليدية نظاماً سياسياً نموذجياً للرد على الاحتلال الاستعماري لـ«دار الإسلام»، وعلى إلغاء مصطفى كمال الخلافة. كان ذلك التراجع انقلاباً شاملاً دمّر الفكرة الإصلاحية أو أتى عليها بالمحو وكانت له الآثار البليغة في فتح الباب أمام الانقضاض «الفكري» والسياسي الشامل على تراثها.
ولا يختلف الباحثون اليوم على أن هذا الانقلاب هو الذي فتح أوسع الأبواب وشرّعها أمام إنتاج مشروع «الصحوة» الإسلامية، الذي انطلق تياره مع مرشد «الإخوان المسلمين» الشيخ حسن البنا منذ الربع الثاني من القرن العشرين. ومع مشروع «الصحوة» سوف يخفت مشروع الإصلاح الديني وسوف يشهد نهايته الدراماتيكية على يد تيار من داخل المرجعية الإسلامية ذاتها، وليس من موقع نظر فكري غيري، كالموقع الليبرالي أو الحداثوي مثلاً، بل إن خصوم الإصلاحية والدعوة إلى الإصلاح الديني وأكثرهم من الإسلاميين ذهبوا إلى حد اتهام عبده والكواكبي بالسقوط في فخاخ الفكر الغربي والدسّ على الإسلام. أي أنهم عملياً، أسقطوا حجّية هذه اللحظة النهضوية الإصلاحية من تاريخ الفكر الإسلامي الحديث. مكتفين بالنظر إليها من حيث هي صدى لفكر الغالب في وعي المغلوب لا من حيث هي مساهمة اجتهادية في النظر إلى مسائل الإسلام والاجتماع السياسي الإسلامي.
كانت العناوين الأكثر تميّزا بين التيارين حول المصالحة مع العلم. والحقائق العلمية، دونما شعور بأن ذلك ينال من العقيدة ومن سلطة الإيمان والحقيقة الدينية ثم المصالحة مع النظام السياسي الحديث. والاعتراف بشرعية المصادر المدنية التي تقوم عليها الدولة الحديثة في مقابل وعي حادّ بهشاشة المسوغات التي تقوم عليها الدولة السلطانية، وأخيراً المصالحة مع فكرة نسبية الأفكار (وهي من ثمرات العلم الحديث) حيث كان مجرد الالتجاء، إلى أفكار «الآخر» والاستفادة منها، بل واعتقادها في بناء التصورات المستقبلية مرفوضاً ومـداناً، بل دليلاً على الشعور بأن المدونة الفكرية التقليدية لا تملك أجوبة حاسمة ونهائية عن كل المشكلات مما يفرض فتح باب
الاجتهاد والتجديد. وخلافاً للإصلاحية الإسلامية، ذهب الخطاب الصحوي والسلفي إلى مهاجمة العلم وتفنيده، ووضعه وضعاً حدّياً في مقابل الإيمان؟ بل ذهب إلى مقارعة فكرة الدولة الحديثة (المدنية والديموقراطية) بدعوى أنها دولة علمانية ملحدة مجافية للدين. داعيا إلى «الدولة الإسلامية» وإلى تطبيق الشريعة فقد كان في بداياته خطاباً مغلفاً على مرجعية واحدة ومتمحوراً حول الذات والهوية، يتصف بعدم الانفتاح على المنظومات المعرفية الحديثة منتدباً نفسه لمقارعتها من جهة وحراسة حقائقه المطلقة من جهة أخرى‎.
خطابا الهوية
ليس من شك في أن الخطابين معاً مثّلا موقفاً دفاعياً عن «الهوية» إزاء، زحف ظافر للفكر الحديث، غير أن الفارق بينهما كان في المنهج وفي طبيعة تلك الاستراتيجية الهويّاتية الدفاعية ومضمونها وأسلوبها، فقد اعتمد الإصلاحيون قاعدة الممكن وكانت الواقعية طريقا عقلانياً عندهم؛ فيما اعتمد الصحويون قاعدة الواجب مستلهمين تجارب التاريخ ومستسلمين الإغراء الطوبى. ولعل المفارقة المثيرة في هذا الشأن أن وعي الإصلاحيين كان أكثر قربا إلى الوعي السياسي من وعي «الصحويين» إليه، على الرغم من أن الإصلاحيين لم ينغمسوا كثيراً في السياسة، وفي الحزبية، كما فعل «الصحويون» بل ظلوا متمسكين بموقعهم الفكري كدعاة الى مشروع إصلاحي مجتمعي.
كانت الدعوة الإصلاحية بالأساس دعوة فكرية في المقام الأول تطلعت إلى صوغ مشروع فكري إصلاحي يتناول أوضاع العالم العربي-الإسلامي بالدرس والتحليل ويقترح معالجات له تصحح الخلل والاضطراب فيه وتفتح له طريق النهوض الحضاري عبر تحرير الوعي من الخرافة، والتقليد، ومن اجترار الشروح والحواشي والمختصرات، والدفع به نحو الاجتهاد والتجديد والابداع. أما الدعوة «الصحوية» فكانت – منذ نشأتها – دعوة سياسية في المقام الأول، فقد كانت معنية بالدرجة الأولى بصوغ مشروع سياسي قوامه استلام السلطة. وتطبيق الشريعة. وبناء الدولة الإسلامية. لم يكن المثقفون جيش هذه الدعوة. على نحو ما كان عليه الأمر في الدعوة الإصلاحية. بل كان جيشها من المناضلين الملتزمين بفكرتها السياسية: إقامة الدولة الإسلامية، وبالتالي كان نتاجهم الفكري في غالبه منصبا على هذا الهدف. لذلك كان رهان الإصلاحيين على المجتمع ووعيه ودوره في صناعة النهضة المطلوبة في حين كان رهان التيار «الصحوي». وكل تفريعاته الحزبية على الطليعة والصفوة المؤمنة. لذلك تركز جهده على الحزب. والسلطة. والدولة معتبراً أنها الأدوات المناسبة للخلاص من «مجتمع الجاهلية» وإقامة «المجتمع الإسلامي» البديل.
وقد رتب كل من الرهانين نتائج متباينة على صعيد استراتيجيات الدعوة. ووسائل القيام بها: اعتمدت الإصلاحية الإسلامية على التربية والتكوين والتثقيف. مداخل وظيفية لها، لبلوغ هدف نشر الفكرة الإصلاحية وبثّها في النفوس، وتحرير الوعي من عوائق التقليد والتأخر وراهنت – في ذلك – على قيام جيل إصلاحي جديد ينهض بعبء بناء وتحقيق مشروع نهضوي عربي ـ إسلامي؛ بينما اعتمدت «الصحوية» أسلوباً حزبياً تعبوياً استهدف التجييش، والتجنيد، والتحشيد للأتباع والمناصرين لتحقيق مشروعها السياسي.
الثورة الثقافية
وبقدر ما كان تعويل الخطاب الإصلاحي على «الثورة الثقافية» سبيلاً إلى النهضة، وكان الرهان على المجتمع ووعيه، هو جوهر مشروعها برمّته بقدر ما كانت حركة «الاخوان المسلمين» في بدايتها، بزعامة مرشدها حسن البنا (تلميذ رشيد رضا) محاولة لاستئناف «التعبير السياسي» عن الهوية الثقافية الإسلامية. غير أنها انتهت عملياً في مشروع حزبي قطع مع منطلقاتها وأهدافها الأولى. لتفتح الطريق بذلك أمام أطروحة صحوية سياسية سوف تشكل مقدمة لفكر القطيعة مع الإصلاحيين الإسلاميين، والتي سوف تنضج على يدي «الجيل الثاني» للإخوان (سيد قطب وشقيقه محمد…). والمجموعة التي عملت على المزاوجة بين أفكار أبي الأعلى المودودي والإسلام السلفي التقليدي. كانت مقولة «الحاكمية» ذروة التعبير عن هذه القطيعة. فهي بعد أن أودت نهائياً بفكرة الدولة الوطنية والمدنية. ولّدت ثقافة التكفير والعنف واستخدام فكرة الجهاد في الداخل. لذلك لم يكن مستغرباً أن ينأى بنفسه عن الانتماء إلى هذا المسار كثير من الرموز الثقافية والقيادات وبعضها كان جزءاً من حركة «الاخـوان المسلمين» حينها، مفضّلاً العودة إلى أفكار المؤسس حسن البنّا، وبناء موقف نقدي من المرحلة القطبية وما بعدها. بينما اختار بعضهم إعادة وصل ما انقطع من العلاقة بالفكرة الإصلاحية.
الخطاب القومي العربي
لا شك في أن صعود الخطاب القومي العربي قد عاق تطور المشروع الصحوي الإسلامي، لكن طوباوية هذا المشروع وتعويله على الثورة السياسية منهجاً وأسلوباً، وانغلاقه على المصادر الثقافية الذاتية قد فرض عليه أن يكون خطاباً شمولياً يختزل الثقافة في السياسة، والمجتمع في الدولة مما أجهض كثيراً من أحلامه، الا أن الدولة الوطنية التي احتكم بعضها إلى الخطاب القومي وبعضها الآخر الذي لم يجد نفسه مضطراً إلى الاحتكام سوى إلى منطق الاستيلاء، على السلطة بقوة العسكر والقبائل والطوائف كرست حياة سياسية فارغة من أي مضمون فكري أو سياسي وأخلاقي. وفاشلة إلى حد الافلاس على المستوى التنموي والاجتماعي ومدمرة إلى حد سحق كرامة الانسان العربي على مستوى الحريات وأسهمت إلى حد كبير بإمداد المشروع الصحوي الإسلامي بعناصر جديدة يتغذى منها مجدداً.
هكذا انفتحت الطرق أمام التيار الإسلامي الصاعد نحو تقديم نفسه كبديل حيث اقتصرت مهمته على تبيان الأخطاء والنقائص وتعميمها على خصومه. ميلاد المشروع السياسي الإسلامي المعاصر وتقديمه لـ«الهوية» الإسلامية كبديل تحت شعار: الإسلام هو الحل. يقترن بتراجع الخطاب القومي العربي أولاً، وفشل مشاريع التحديث والتنمية العربية بكل تجاربها وملامحها الايديولوجية المختلفة ثانياً. من هذا المنطلق نستطيع أن نفسر لماذا لم يؤدِّ تراجع الحركة القومية العربية إلى تدعيم «الهويات» الوطنية في الوطن العربي، لكنه بالعكس واكب عودة الشعور الإسلامي ليكتسح من جديد قطاعا واسعا من الوعي بالهوية باعتباره منبعاً للشعور بالذاتية الحضارية التي تتجاوز الانتماء الوطني للدولة، والتي بسبب هزالها وفشلها لم تعد تبدو مقنعة كمصدر قيم وتنظيم للشعور الجمعي والولاء، من جهة، وعاجزة عن تشكيل أي بديل حضاري في المدى المنظور من جهة ثانية.
في قلب هذا الحراك «الهوياتي» شهدت تلك المرحلة ما يشبه الاحتراب والسجال المفتوح ما بين المشروعين الإسلامي والقومي، انخرط فيها مفكرون وقوى وأحزاب وتيارات. تناولت قضايا فكرية وسياسية عديدة كانت ولا تزال تعد من المسائل الاشكالية والخلافية في «الفكر العربي والإسلامي المعاصر» تناولت قضايا العلاقة بين الدين والدولة والمواطنة والعلمانية وحقوق الانسان والمرأة والاقليات والجهاد والعنف والمعارضة وغيرها من المسائل التي بقي كثير منها قيد النقاش على الصعيد الفكري والسياسي بين النخب والتيارات. لكن الاهم أنها بقيت خارج أي انتظام حواري على مستوى الانظمة السياسية العربية وخارج أي تفاعل نقدي يحولها على مستوى الممارسة إلى منتح فكري جديد. وهكذا بقيت هذه التيارات ومعها شرائح واسعة في خنادقها الايديولوجية القديمة.
خلاصة القول إن بذور الاختلاف والتنوع حول مرجعيات الهوية الثقافية العربية، بكل اتجاهاتها وتياراتها، ليست إلا استئنافاً، بكيفيات مختلفة، لتلك الحقبة وتحدياتها. ويمكن للمتابع والدارس، اليوم، أن يجد في صفوف الإسلاميين من يذهب الى تبني منهج التجديد والاصلاح، ناهلاً من تراث الإصلاحيين الأوائل، كما يجد بينهم السلفيين الوهابيين الذين حافظوا على نقاء الفكرة النجدية بصورتها الأولى، كما يجد منهم من قام بمزاوجتها مع الفكر الاخواني أو القطبي، ليعيد انتاجها على شكل سلفية مسيسة ومتحزبة، أو سلفية جهادية على نموذج القاعدة أو تنظيم الدولة. وبالتالي ليس في وسعنا أن نغامر ونستنتج أن المشروع السياسي الإسلامي المعاصر قد بلور هوية ما؛ فثمة أكثر من هوية معاصرة اليوم للمشروع الإسلامي في علاقته بالدولة، والتي بمجملها تقيم الدولة على المرجعية الدينية، وإن كانت تختلف فيما بينها الى حد التناقض في تفسيرها لمضمون هذه المرجعية، ودلالاتها، وحدودها، ومصادرها، وإمكان الاستفادة من مرجعيات أخرى.
فالنسخة الجهادية، تقطع مع مفهوم الدولة بصيغته «الجاهلية» المعاصرة وتضع أولوية «الجهاد» على رأس مهامها لإقامة «حكم الله» ونظام الخلافة؛ فمع سيد قطب تأسس مفهوم هوياتي للحكم والدولة في الإسلام يقوم على مرجعية العقيدة فقط، صاغه بما يناقض أي هوية أخرى: «جاء الإسلام.. ليرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين، وشائج اللحم والدم، فلا وطن للمسلم الا الذي تقام فيه شريعة الله… ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في الأمة المسلمة في “دار الإسلام”.
النسخة الإيرانية
أما النسخة الايرانية التي مثلت في بدايتها مصدر إلهام للحركات الصحوية الإسلامية، فتطرح هوية إسلامية على مرجعية المذهب، فتقطع مع «الأمة» وولايتها ببعدها التوحيدي لتعيد بناء مفهوم الأمة على قاعدة انقسامية، هويتها ومرجعيتها الأساس تتمثل بالانتماء الى المذهب، ولتؤسس بناء عليه نظرتها الى الدولة على منظومة «ولاية الفقيه العامة»، التي تقيم سلطة دينية تتمتع بالهيمنة الكاملة، بل وبصلاحية «التكليف الشرعي» الذي يمتد الى خارج حدود الدولة حيثما يوجد الشيعة المتصلون وجوباً بالمرشد «الولي الفقيه».
أما الصيغة الإخوانية التأسيسية فقدمت خطاباً هوياتياً خالصاً، وإن كان بالممارسة أكثر براغماتية في مقاربته لمسائل المواطنة والتعددية والمشاركة، وقد نجح في تجربته التركية المطورة في تقديم نموذج ديموقراطي لم يستفد منه كما يجب بين الإسلاميين العرب، وهو لا يزال أمام امتحان الدولة والإنجاز في تونس والمغرب وفلسطين (غزة)، إلا أنه فشل في صيغته وتجربته المصرية الأم.

في الخلاصة نحن أمام خطاب هوياتي ديني متمذهب، يقيم دعواه على أساس النصوص المتشكلة تاريخياً، ويتطلع لإنشاء «الدولة – النموذج» استناداً الى مرجعيتها، ويستحضر لتحقيق هذا الهدف كل العدة المعرفية المساعدة لإحياء الهوية الإسلامية الصافية، وكل حسب فهمه لها وتفسيره لمضمونها. ومع تعدد الأفهام والتفاسير في دائرة جاء فيها أصل التشريع عاماً، ساد منطق التكفير والتبديع، وضاقت مساحات الحوار والاجتهاد، وفقد المشروع الإسلامي هويته التوحيدية والنهضوية، وخاصيته التأسيسية، التنويرية والتحررية، لتخرج الحصيلة هويات دينية متمذهبة، غارقة في احتراب فكري وسياسي، مستعيدة خصومات وجدالات تاريخية مذهبية وفقهية عقيمة، يجري استخدامها وتوظيفها في الصراعات السياسية التي حوّلتها الى هويات قاتلة ومتوحشة.
الخميس 3 آب 2017 – العدد 6142 – صفحة 13 جريدة المستقبل اللبنانية

هل للمعرفة والثقافة خصائص و محددات ؟ مقاربة سوسيولوجية …بقلم الدكتور عبد الغني عماد

هل للمعرفة والثقافة خصائص و محددات ؟ مقاربة سوسيولوجية
بقلم الدكتور عبد الغني عماد
***********************************
في أهمية المقاربة السوسيومعرفية:
ليست نظرية المعرفة مجرد بحث في الصلة بين ذات عارفة وموضوع؛ لأن هذه الذات تخضع لشروط مجتمعية حين تدرك موضوعها وتعرفه في إطار المجتمع. ولذلك كان من الضروري دراسة المعرفة من حيث هي ظاهرة اجتماعية، وهذا اختصاص علم اجتماع المعرفة Sociology of knowledge، الذي يدرس الطبيعة الاجتماعية للمعرفة باعتبارها واقعة وحقيقة. فعلم اجتماع المعرفة يقوم على فرضية الترابط العلائقي بين المعرفة وأساسها الاجتماعي، ويرى أن الأنواع المختلفة من المعرفة إنما ترتبط بسياقها الاجتماعي المختلف، وأن المهمة الرئيسية لهذا العلم تكمن في كشف ارتباط المعرفة بالواقع الاجتماعي.
وإذا كانت المعرفة التي أقامها كثير من الناس على مر الأجيال تزيد كثيراً عما يستطيع أن يبلغه أي فرد، فإن المجتمع يقوم باختزان هذه المعرفة، بمختلف ألوان التسجيل، حتى يمكن أن تكون هذه المعرفة المتراكمة متاحة اجتماعياً. إن إحدى الوظائف المباشرة للمعرفة أن تحوًل مفاهيم مبعثرة إلى شكل كلي، محتفظة فيها، بحيث يمكن نقلها للآخرين كأساس راسخ للسلوك العلمي.
فالعوامل الثقافية مثل الأفكار والمعتقدات والقيم هي التي تحدّد هوية الفرد وشخصيته، وتجعله جزءاً من الحياة الكلية للجماعة التي ينتمي إليها. ولعلَّ من الطبيعي أن تقع خلافات داخل الجماعة الواحدة، كما يحدث في الجماعات التي تنتمي لثقافات مختلفة، وكما يعتقد كثيرون من علماء الاجتماع المتأثرين بالفكر الماركسي، فإن الصراع الطبقي في مجتمع ما يحدث بطرق ملتوية وغير مباشرة. ومن الموضوعات المهمة التي يتصدى لها علم اجتماع المعرفة: أن فهم توزيع علاقات القوى في مجتمع ما يحتّم علينا تحليل العوامل الثقافية لذلك المجتمع، ومساهمة هذه العوامل في زعزعة الوضع الراهن في المجتمع أو الحفاظ عليه.
وهكذا… يمكن النظر إلى المعرفة والثقافة بوصفها واقعة اجتماعية، مثل أي واقعة اجتماعية أخرى، كالأعراف الاجتماعية أو العادات الدينية أو النظم السياسية، التي يمكن دراستها كظاهرة اجتماعية.
الدراسة السوسيولوجية للمعرفة وللثقافة تقدم مداخل منهجية وتفسيرية جديدة، لا لفهم الجماعات والمجتمعات فحسب، بل كذلك لاستيعاب ما يدور حولنا وفهم علاقات القوى ضمن جماعات ومجتمعات معيّنة. ببساطة، فإنّ الثقافة بالغة الأهمية، ويستحيل علينا فهم الحياة الاجتماعية والإنسانية ما لم نفهم العوامل المختلفة كلها المحيطة بهذا المفهوم.
هناك مجموعة هائلة من المنتجات الثقافية المنتشرة في مجتمعاتنا المعاصرة؛ من كتب ومجلات وصحف وأفلام وبرامج تلفازية ومواقع إنترنت. ليس هذا فحسب، بل إن طرق نشر هذه المنتجات مذهلة للغاية، فبواسطة شبكات الاتصال الضخمة تصل هذه المنتجات وفي وقت قصير إلى أنحاء العالم كله. وتتشارك فروع السوسيولوجيا في الكثير من القضايا، ولهذا فإنّ على الذين يرون أنفسهم متخصصين بعلم الاجتماع أن يواجهوا، شاءوا أم أبوا، معيارين غاية في الأهمية:
الأول يميز السوسيولوجيا عن الفلسفة (حتى ولو كان هذا ينطبق على بعض أنواع الفلسفة)، فلا بدّ من دعم السوسيولوجيا ببعض المراجع المبنية على التجربة. فالباحث الذي “يُنظّر” حول الحياة الاجتماعية من غير أن يدعم نظريته بأدلة ميدانية حقلية هو فيلسوف اجتماعي أكثر منه مُتخصّص بالسوسيولوجيا. بيد أنّه من الممكن أن يكون المرء متخصصاً بالسوسيولوجيا النظرية، إذ أثبت أنّ هناك آخرين يعملون على دعم نظرياته بالبيانات التجريبية.
الثاني يهتم بالمحور الأساسي للتنظير السوسيولوجي، وهو يبحث العلاقة بين “البنية الاجتماعية” و “الفعل الاجتماعي”. وببساطة، فإن ذلك يعني دراسة ما يفعله الأفراد (الفعل الاجتماعي) ودراسة ما يمليه عليهم المجتمع أو يجبرهم على فعله (البنية الاجتماعية). ويرى بعض الدارسين أنّ المعيار الثاني الذي يفرض البحث في هذين الجانبين معاً، أكثر إثارة للجدل من الأول، وذلك لأنّ بعض فروع السوسيولوجيا التي تهتم بجانب واحد (إمّا الفعل أو البنية)، ترفض دراسة الجانب الآخر لها. والأكثر عرضة لهذا الأمر هو الأنواع المختلفة للسوسيولوجيا المُصغّرة التي ترفض وجود “البنية الاجتماعية”، إذ لا تعد مثل هذه الأفكار إلا أفكاراً تجريدية، افتعلها المهتمون بالسوسيولوجيا الكلية.
إنّ الفكرة الرئيسة هنا هي أنّه لا بدّ من اجتماع هذين المعيارين إذا ما أردنا وصف منهج معين بأنّه منهج “سوسيولوجي” بطبيعته. أمّا إذا أردنا تعريف فِكر مُعين بأنّه جزء من “سوسيولوجيا الثقافة” و “المعرفة”، فلا بدّ من إضافة معيار ثالث، هو:
“السعي لفهم العلاقة بين العوامل “الاجتماعية” والعوامل “الثقافية والمعرفية””.
وبما أنّ السوسيولوجيا هي العلم الذي يبحث في الأبعاد الاجتماعية للحياة الإنسانية، فإنّ دراسة الثقافة والمعرفة ضمن حدود السوسيولوجيا تعني البحث في العوامل الاجتماعية والثقافية معاً.
يبقى السؤال هل يمكن وضع تصور اولي لمحددات الثقافة وخصائصها؟ وهل يمكن اعتبار هذا التصور نهائيا ؟ بالتأكيد انه تصور نظري يضعه المفكر السوسيولوجي ليتمكن من تحليل الظاهرة الثقافية التي لا تعمل عناصرها بشكل منفرد بل بشكل متكامل، يتفاعل بعضها مع بعض .

أولا: محددات الثقافة

تتضمن ثقافة اية أمة أو جماعة وجهة نظر كل فرد عن السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية وموقفه من الآخرين. ومع ذلك هناك خصائص عمومية عديدة للثقافة تجعلها مصدرا ملهما لعدد كبير من التغيرات على مستوى الأنساق والعلاقات الاجتماعية ويمكن تحديدها بالخصائص التالية:
1- الثقافة نتاج اجتماعي وإنساني.
وتختلف النظم الاجتماعية كما تختلف أنماط الثقافة في مدى شمولها،
أ‌- فهناك أنماط تشمل جميع أفراد المجتمع الواحد وتسمى العموميات ، مثل أنظمة الضبط الاجتماعي، بحيث يتعرض المخالف لها لعقوبات أو لنبذ اجتماعي. ومع ذلك فمن الناحية العملية لا تتمتع كل الأنماط الثقافية بهذا الشمول وبخاصة في المجتمعات الحديثة ،
ب‌- فهناك الكثير من الخصوصيات التي تشمل جماعة معينة داخل المجتمع الواحد ،
ت‌- كما أن هناك بدائل وهي عناصر ثقافية متعددة ، للفرد حرية الاختيار بينها .

2- الثقافة مكتسبة
عن طريق التفاعل ، فهي لا تنتقل بالوراثة ، لكنها تتكون من خلال :
أ‌- التنشئة الاجتماعية.
ب‌- أو الانتشار
ت‌- أو التثاقف
ث‌- أو الاستعارة
ج‌- أو التماثل والاستيعاب .
ولا يدخل فيها السلوك الفطري والأفعال المنعكسة ، ومع ذلك لا يمنع أن تكون بعض النظم الثقافية قد أوجدها الإنسان لإشباع حاجات فطرية .

3- الثقافة كل ونسيج متداخل
قد يكون هذا التداخل والتساند وظيفيا كما يقول الوظيفيون، وقد يكون نوعا من التكامل البنيوي كما يقول البنيويون .

4- الثقافة نامية ومتغيرة
قد تموت الثقافة إذا تفكك المجتمع الذي يحملها عن طريق الفناء أو عن طريق الغزو، إذ قد يفرض الغازي ثقافته بالقوة ، أو عن طريق الاندماج بثقافة أكبر وظهور ثقافة جديدة نتيجة لانصهار الثقافات القديمة.
وبما أن الثقافة متغيرة، فهي تتحرك وفق آلية التحول والتكيف. وباختصار عندما تتغير ظروف الحياة، فإن الأشكال التقليدية للثقافة تتوقف عن مد الإنسان بالحد الأدنى من الإشباع، لذلك فهي تستبعد أو تظهر حاجات جديدة وتكيفات ثقافية جديدة، يعيش الإنسان من خلالها.
ولعل ظاهرة الانتشار من الظواهر التي حظيت بنصيب كبير في علم الاجتماع الثقافي ، لأنها تتعلق بحركتها الخارجية. وقد ثبت أن أكثر التغيرات تفد إلى الثقافة من الخارج، ولهذا فإن المناطق الجبلية والجزر المنعزلة ذات حظ قليل من التغير الثقافي. وإذا كانت بعض خصائص الثقافة كالنمو والاستمرار والتراكم تمثل ” الانتاج” فإن الانتشار يمثل ” التوزيع” ، وهو ما يميز الثقافة المعاصرة التي أصبح الانتشار أحد أبرز خصائصها ومكوناتها الذاتية، بما ابتكرته من وسائل الاتصال الحديثة والتي تجاوزت عوائق الزمان والمكان التقليدية.

لا شك في أن آلية الانتشار الثقافي قد فتحت الباب منذ زمن لمسألتين بالغتي الدقة:
– الأولى : تتعلق بالموقف من الثقافات الأخرى وكيفية استقبال المجتمع للعناصر الثقافية الجديدة الوافدة.
– الثانية : تتعلق بوسائل الانتشار نفسها.

5- الثقافة أفكار وأعمال :
لم يقف الانسان عاجزاً أما البيئة وإنما أخذ يفعل فيها، ويقيم معها علاقات أخذت أبعاداً ثلاثية:
أ‌- مادية؛ فمن خلاله تحولت علاقة الانسان مع البيئة إلى أعمال ومنجزات .
ب‌- اجتماعية ؛ يشمل النظم الاجتماعية التي تحدد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان .
ت‌- رمزية؛ يشتمل على علاقة الانسان بعالم الأفكار المجردة والرموز، كاللغة والدين والقيم والفن والأخلاق.

6- متباينة في المضمون ، متشابهة في الشكل
تختلف الثقافات في مضمونها وتتباين إلى درجة التناقض أحيانا، فما يعتبره مجتمع ما أنه الفضيلة، هو رذيلة وربما جريمة في ثقافة أخرى.
ويعود التباين بين الثقافات إلى عوامل موضوعية عديدة منها:
أ‌- البيئة الجغرافية
ب‌- حجم الجماعة الإنسانية التي يجري فيها التفاعل الإنساني.
ت‌- طبيعة الاتصال والتعاون بين الجماعات الإنسانية.
ث‌- توفّر الطاقة أيضا يلعب دورا مهما.
ج‌- القيم السائدة في المجتمع الإنساني لها دور في التنوع الثقافي كبير جدا.
ح‌- طبيعة الإنسان كصاحب عقل مفكر ومبدع قادر على إنتاج أعداد لا نهائية من الأفكار والبدائل.
ومع ذلك نجد تشابها واضحا بين جميع الثقافات إذا نظرنا إليها كنظم أو كقطاعات . فكل ثقافة فيها الأبعاد الثلاثة السابقة الذكر ( المادي – الاجتماعي – الرمزي ) .
في كل ثقافة يوجد أنظمة ثقافية متشابهة من حيث الشكل ، ويطلق البعض على تلك النظم المتشابهة في جميع الثقافات النماذج أو الأنماط العالمية للثقافة .

7- الثقافة مثالية ونسبية
تختزن الثقافة نماذج مثالية يعمد أفراد المجتمع إلى تمثلها والتكيف معها. ولابد للثقافة لكي تستمر من تحقيق الإشباع لمن يمارسها وبخاصة فيما يتعلق بالعادات، وعملية الإشباع لابد لها من تحقيق توازن تتفوق فيه اللذة على الألم ، لذلك فالإشباع يدعم العادات ويساندها بينما ينجم عن قلته أن تنطفئ العادات وأن يخبو وهجها وأن تختفي تماما. وهذا ما يحصل عمليا ويترتب عليه أن ما يناسب جيلا لا يناسب آخر، ومن يستطيع التكيف هنا ليس بالضرورة أن يستطيع التكيف هناك. لذلك فالثقافة نسبية.

8- الثقافة إنتقائية انتقالية وتراكمية
بمعنى أن الجيل الذي يتلقى عناصر الثقافة ينتقي منها البعض ويستبعد البعض الآخر تبعا لظروفه وحاجاته. وغاية ما هنالك أن قبولنا الواعي لعناصر الثقافة يجعل لنا نوعا من القدرة على تكييفها تبعا لظروفنا وعدم الاكتفاء بالتلقي السلبي.

ثانيا : محددات التفاعل الثقافي وآلياته

كل منا ينتمي إلى جماعة أو أكثر ، ومن خلالها هو على اتصال مع المجتمع الكلي، والاتصال هو أبرز آليات التفاعل بين الأفراد والجماعات.
والتفاعل تبادلي ، يمكن ملاحظته داخل الجماعة ، وخارجها، وهو قد يأخذ ثلاثة أشكال :
1- من شخص إلى شخص
2- أو من شخص لجماعة
3- أو تفاعل من جماعة إلى جماعة.
وقد اخترنا خمس آليات أساسية للتفاعل الثقافي والاجتماعي:
1- التبادل :
مهما كانت العلاقات حميمة وصادقة ، ومفعمة بالاحترام والتقدير والحب، فإنها تظل متميزة بمعالم التبادل بحيث يقوم سلوك أحد الطرفين على توقع المكافأة من الطرف أو الشخص الآخر. ولا يقتصر التبادل على أنه يرسخ روابط الصداقة بين الأقران فحسب ، لكن يوجد أيضا فوارق في المقام . فمن يسيطر على خدمات يحتاجها الآخرون أو يريدونها ولا يستطيعون الحصول عليها بأنفسهم يجد في نفسه مركز قوة ونفوذ.
سواء كانت آلية التبادل مولدة للصداقة والحب أو للاستياء والكره، فإنها أحد أهم العناصر التي تدخل في عداد التفاعل الاجتماعي.

2- التعاون
التعاون هو أحد أبرز أشكال التفاعل الاجتماعي ، وعلى الرغم من ضرورة التمييز بين التعاون والتنافس، إلا أننا في الحياة العملية قلما نجد هذين النشاطين منفصلاً أحدهما عن الآخر، ذلك أن التنافس يتطلب على الأقل حداً من التعاون السابق والضروري.

وللتعاون أنماط عديدة أهمها أربعة هي :
أ‌- التعاون العفوي : هو دائما غير متعمد وغير مخطط.
ب‌- التعاون الموجّه : إنه نتيجة لتوجيه من فوق .
ت‌- التعاون التقليدي: إنه جزء من المعايير والتقاليد والأعراف الاجتماعية المتوازية.
ث‌- التعاون التعاقدي : تعتبر بنوده محددة ومشروطة بإرادة المشاركين أو محكومة بالأنظمة القانونية وهو بالغ الدقة لجهة مدة العلاقة ومتطلباتها. وقد يكون موجها أو غير موجه ، لكنه لا يمكن أن يكون عفويا.

3- التطابق
التطابق أحد عمليات السلوك الاجتماعي الأكثر شمولا واستمرارا، ذلك أنها تساعد الفرد على تكييف نفسه مع معايير معينة، وذلك انعكاسا لتأثير الجماعة الاجتماعية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

4- الإلزام :
يمكن تعريف الإلزام بالسلوك القائم على أو الناتج عن الإكراه والقهر في الغالب. وكذلك يمكن للمرء أن يمارس الإلزام أو الإكراه على نفسه . فما ندعوه ” قوة الإراده ” هو شكل من أشكال الإكراه أو الإلزام، يكون فيها الفاعل والمفعول به شخصاً واحداً بعينه.
يصعب العثور على علاقة في السلوك الاجتماعي تخلو كليا بطبيعتها من الإلزام، والذي يظهر بأشكال وطرق مختلفة.
5- الصراع
إنه السلوك الذي يحمل أفاردا أو مجموعات إلى التنافس أو التناحر فيما بينهم لبلوغ هدف يسعى إليه الجميع. ويمكن للصراع أن يندلع في الإنسان نفسه تجاه ما يشتهيه فيقاومه لبعض الآثار المترتبة .
قد يكون الصراع وسيلة لتحقيق انجازات باهرة كتخفيف حدة الطغيان ( عند الصراع بين الأحزاب مثلا ) . وعليه لا يمكن تجنب الصراع داخل أي مجموعة مهما اشتدت أواصر الألفة ما بينها ، وبغض النظر عن شكل التنظيم الاجتماعي الذي يعيشون فيه.
***************************************
هذه الدراسة كما الدراسات المنشورة على المدونة بعنوان الحداثة وما بعد الحداثة _ وادلجة الثقافة وتسييسها نهاية التاريخ وصدام الحضارات نموذجا _ دراسة أدلجة الثقافة وتزييفها:
العولمة وإشكالية الهيمنة هي تلخيص مكثف لبعض الفصول من كتابي سوسيولوجيا الثقافة المفاهيم والإشكاليات … من الحداثة إلى العولمة الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ،2009

الثقافة،القيم والتراث الشعبي …. وإشكالية المصدر بقلم الدكتور عبد الغني عماد

الثقافة،القيم والتراث الشعبي …. وإشكالية المصدر
بقلم الدكتور عبد الغني عماد
**********************************
إن المعرفة والثقافة مسألة اجتماعية، لا يمكن أن تنفصل عن الواقع الاجتماعي، ولا يمكن أن تكتسب وتبنى إلا في المجتمع الذي يعمل فيه الأفراد متعاونين، يعتمدون بعضهم على بعض، ويتبادلون خبراتهم، ويكتسبون معارفهم، ويسهمون في بناء المعرفة الجديدة، التي ما كان يمكن لهم أن يبلغوها لو لم يكونوا أفراداً في مجتمع معين، ولو لم تكن تحت أيديهم الوسائل المادية، والأساليب الفكرية التي أنتجها مجتمعهم لاكتساب المعرفة. ودراسة المعرفة هي محاولة للوصول إلى صميم أكثر القضايا المثيرة للجدل والمتنازع عليها التي تواجه البشر في حياتهم.

تأتي الثقافة من كل الاتجاهات ( المجتمع ، التاريخ ، الدين ، التفاعل بين الأفراد وبينهم وبين البيئة … ) . وتلك هي إشكاليتها . فبقدر ما ينتج المجتمع ثقافة، تنتج الثقافة مجتمعاتها بكيفية خاصة.
وبقدر تفاعل الأفراد مع بيئتهم واستجابتهم للحاجات المستجدة، تنمو الثقافة ويتكون المجتمع. وبقرد ما تتراكم الخبرات وتنتقل عبر الزمن ويتم تعديلها والإضافة إليها يكتمل بنيان الثقافة والمجتمع.
الثقافة تفعل فعلها، فهي تقوم بذلك على نحو مكتوب وعلى نحو منطوق ثم على نحو حركي . هي تفاعل يترجم إدراك الإنسان للمستوى الحقلي بكافة تجلياته الفطرية والتركيبية. وإن شئنا استعارة العبارات الأنثرولوجية نقول إننا أمام نمطين من الثقافة هما :
أ‌- الثقافة العالمة
ب‌- والثقافة الوحشية
وهو تقاطب يمكن التعبير أيضا عنه بـ :
أ‌- الثقافة العليا
ب‌- والثقافة الشعبية
في هذا التقسيم لا امتياز للثقافة المكتوبة ( العالمة ) على الثقافة الشعبية ( الشفوية ) في مضمار التعبير عن الذات . إلا أن الثقافة المكتوبة أكثر من غيرها تراكما ونجاحا. والمشكلة في التفاوت لجهة وعي المجال والديناميكية الخاصة بحقل كل منهما.
التاريخ الوحيد الذي كتب بعناية هو تاريخ الثقافة المكتوبة، فيما لم تحظ الثقافة الشعبية بكبير اهتمام يليق بمكانتها في بناء الاجتماع الإنساني. وهو أمر سيحدث فجوة عميقة في إدراكنا للقسم الأعظم من التعبير الثقافي للمجتمعات والشعوب.
وميزة الثقافة الشعبية أن أكثر أشكالها غير مدون في الكتب ، بل محفوظ بشكل :
– مادي في اللباس مثلا
– أو في الذاكرة الجماعية كالأمثال التي لا صاحب لها
– وفي القيم والعادات والتقاليد والأعراف والشعائر والطقوس التي يقع الجميع تحت وطأتها مؤمنا أكان أو غير مؤمن .
هذا يعني أن الباحث لا يستطيع الاكتفاء بالتوجه إلى المكتبة الجامعية لدراسة الثقافة، بل ينبغي عليه أن يهبط إلى حقل الحياة العملية لكي يجمع عناصرها .
الثقافة الشعبية من الشارع و ثقافة المنزل ومقاعد الدراسة تنبني فيها القيم والمعايير، وتنشأ العادات والأعراف والتقاليد والطقوس مُشكِّلة لبّ الثقافة وكتلتها الصلبة.
الثقافة الشعبية تخترق كتلتي المتعلمين والأميين ، وتتجاوز أشكال الحصر والتحديد ، مُشكلة ” ذهنية ” ثقافية تتميز بالصلابة والتماسك.
والتاريخ كمحصلة لتجارب البشر ليس بعداُ للثقافة فحسب، بل هو جزء منها يتجلى في وعي الإنسان. فالآتي من الماضي ، هو أول وأقوى مصدر من مصادر الثقافة، والأكثر ارتباطا وتفاعلا وحضوراً في ممارسات الناس وانفعالاتهم وتفصيلاتهم في حياتهم العملية واليومية.
لا يعني هذا الوقوع في حتمية تاريخية سلبية لإرادة الإنسان . إلا أن الأجوبة الجاهزة والبسيطة الآتية من الماضي كافية في كثير من الأحيان ، لتعفيه من مشقة البحث والتنقيب . ولكي تكتمل صدقية المشهد الثقافي من الناحية السوسيولوجية ، لابد من قراءة النماذج بصورتيها العالمة والشعبية، ودراسة كيفية اشتغالها في حقليها الموضوعي والرمزي.

أولاً : الثقافة والدين

يمثل الدين ثقافة كاملة لشعب أو أمة أو حضارة من حيث صيرورته نظاما من الممارسات فضلا عن كونه نظاما من التصورات، بغض النظر عن طريقة استيعابه وطرق التعبير عنه من طرف المؤمنين به.

الدين ثقافة كاملة ، وينطلق من قبول نماذج روحانية محددة لينتقل مباشرة إلى فرض نماذج أخلاقية وقيمية محددة ، فيصبح بذلك شبكة متكاملة من النماذج الفكرية والمسلكية تؤطر حياة من ينضوي تحت لوائه .
ويمثله حالتين أو نمطين :
1- كونه نمطا من أنماط المعرفة بالوجود الطبيعي والاجتماعي ، وهو بذلك يختلف عن سواه من أنماط المعرفة كالعلم والفلسفة والأسطورة وسواها ، وهو كذلك يقدم تصورا لبناء الاجتماع الإنساني على نحو يغطي أحيانا أدق تفاصيل هذا الاجتماع اقتصاداً وسياسة ، وأخلاقا ، وأحوالاً شخصية .
2- إنه ينطلق من فرضيات مسبقة هي فرضيات الإيمان ، وعلى من يقبل بها أن يعمد إلى تبني سلسلة من الفرائض تقيد مسلكه الاجتماعي . أنه طاقة تعبوية هائلة لشحن الحقل الثقافي ، فهو في الواقع الموضوعي يتكون بالتفاعل مع الحقل الاجتماعي ، بما يحمله من ضغوط وتحديات واستجابات تفضي إلى تعبئة ” المخيال الجماعي ” برموز وقيم وعادات وتقاليد من شأن استثمارها في الحقل الثقافي أن يعيد التوازن إلى الذات ، ويشحنها بالتالي على الأداء الأفضل والأمثل . وهذا يفسر كيف يلعب الدين دورا محورياً في الأزمات الكبرى.
إنه ثقافة إذا بوصفه نمطاً ” مغلقا ” من القيم والعادات والطقوس والشعائر، أي طريقة ثابتة الملامح في ممارسة الحياة وفي بناء الاجتماعي وإعادة إنتاجه. وهو يمثل في الحالتين – بنية عقلية كاملة للمجتمع بالمعنى الأنثروبولوجي الكامل للكلمة ،- أي نمطاً من التفكير والسلوك يكتسب منطقاً ذاتيا خاصا ، يمتنع فهمه أو تعليله بمعزل عن شبكة المعاني والدلالات الخاصة به.
إذا ثمة حالتان يمثل الدين في الأولى نسقا كاملاً يمد المؤمنين بأنماط متكاملة في ما يتعلق بالقيم وإدراك الوجود ، ويمثل في الثانية عنصراً فاعلا وقدرة دينامية داخل نسق أشمل يتمثل في الاجتماع المدني بأبعاده السياسية والوطنية والقومية والإنسانية .

وإدراك الفارق بين الحالتين يعني أن فهم ” المجال الحقلي ” لكل منهما ضروري لإدراك حركة الثقافة وديناميتها موضوعيا. ففي الحالة الأولى نحتاج إلى تحليل معرفي ديني . فيما نحتاج في الحالة الثانية لفهم الواقع تحليلا سوسيو-ثقافيا ، يكشف آليات اشتغال الثقافة الدينية في البنية الاجتماعية ، واستثمارها بالتالي للحقل الديني في عملية بناء الثقافة وحركتها والأفعال الناتجة عنها.

ثانيا: القيم الثقافية

يعتبر مفهوم القيم من بين أكثر مفاهيم العلوم الاجتماعية غموضا وارتباطا بعدد كبير من المفاهيم الأخرى لارتباطه بالتراث الفلسفي ، ووقوعه على أرض مشتركة بين مجموعة من العلوم والمعارف.

تناول العلماء الاجتماعيون مسألة القيم ، فمنهم من درسها على أساس الموضوعات وما تنطوي عليه من قيمة ، ومنهم من درسها كما يتبناها الأشخاص.
وإذا كانت القيم لملهمة للأحكام بالنسبة للتصرفات والسلوك، فهي أيضا الأساس الضمني لأي نموذج ثقافي، وهي تحتوي معايير للسلوك ذات صفة مميزة. وسلطة هذه المعايير والنماذج الثقافية لا تعتمد على القوة بقدر ما تعتمد على الانتماء إلى القيم. لذلك فالارتباط وثيق بين القيم والنماذج الثقافية.
القيم الحقيقية الوحيدة بنظر عالم الاجتماع هي دائما قيم مجتمع مخصوص. والقيم تتغير في الزمان وتتغير من مجتمع لآخر ، لذلك هي نسبية وهي تتضمن بالإضافة إلى ذلك شحنة انفعالية، وتستدعي انتماء عاطفياً وأحاسيس قوية. هذه الشحنة من الحساسية هي التي تفسر الثبات النسبي للقيم عبر الزمن ، وهي التي تفسر أيضا المقاومة التي يلاقيها عموما تغيّر القيمة وتبدلها داخل أي مجتمع من المجتمعات، وغالبا ما تتعهد الأحاسيس في أن تقيم بين القيم روابط قد يجد العقل وحده صعوبة أحيانا في الدفاع عنها .

إشكالية التعريف
إن هذه التعريفات تعكس التباين في وجهات النظر ، تبعا للمدارس والاتجاهات المختلفة للباحثين ، وتبعا بالتالي للتخصص العلمي . لذلك نكتفي بعرض تعريفين يتميزان بالشمولية والدقة النسبية.
– الأول يقدمه د . عبد اللطيف خليفة يعتبر فيه القيم ” عبارة عن الأحكام التي يصدرها الفرد بالتفضيل أو عدم التفضيل للموضوعات أو الأشياء. وذلك في ضوء تقييمه أو تقديره لهذه الموضوعات أو الأشياء. وتتم هذه العملية من خلال التفاعل بين الفرد بمعارفه وخبراته، وبين ممثلي الإطار الحضاري الذي يعيش ويكتسب من خلاله هذه الخبرات والمعارف .
– الثاني يخلص إليه عدد من علماء الاجتماع العرب وهو يعتبر أن القيم مجموعة من المعتقدات التي تتسم بقدر من الاستمرار النسبي ، والتي تمثل موجهات للأشخاص نحو غايات أو وسائل لتحقيقها، أو أنماط سلوكية يختارها ويفضلها هؤلاء الأشخاص بديلا لغيرها. وتنشأ هذه الموجهات عن تفاعل بين الشخصية والواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وهي تفصح عن نفسها في المواقف، والاتجاهات والسلوك اللفظي والسلوك الفعلي والعواطف التي يكونها الأفراد نحو موضوعات معينة.
يتقاطع هذان التعريفان في عدد من النقاط التي تصلح للاستخدام الإجرائي أو العملي في العلوم الاجتماعية. ويمكن حصرها بالنقاط التالية:
1- القيم هي محك تحكم بمقتضاه
2- تتحدد من خلالها أهداف معينة أو غايات ووسائل.
3- يمكن من خلالها الحكم سلبا أو إيجابا على مظاهر معينة من الخبرة في ضوء عملية التقييم التي يقوم بها الفرد.
4- التعبير عن هذه المظاهر في ظل بدائل متعددة أمام الأفراد للكشف عن خاصية الانتقائية التي تتميز بها القيم.
5- تأخذه هذه البدائل أحد أشكال التعبير الوجوبي لخاصية الوجوب أو الإلزام التي تتسم بها القيم.
6- يختلف وزن القيم ذات الأهمية بالنسبة للفرد وزنا نسبيا أكبر من نسق القيم، وتمثل القيمة الأقل أهمية وزنا نسبيا أقل في هذا النسق .
ولمزيد من التحديث في توضيح مفهوم القيم يجب التمييز بينه وبين عدد من المفاهيم التي عادة ما تختلط بها :
أ‌- القيمة ومفهوم الاتجاه : على المستوى الوصفي الفرق بين الاتجاهات والقيم هو كالفرق بين العام والخاص . فالقيم عبارة عن تجريدات وتعميمات.
ب‌- القيم والمعايير الاجتماعية : ثمة ثلاثة جوانب تختلف فيها القيم عن المعايير الاجتماعية :
1- القيمة تشير إلى نمط مقفل للسلوك أو غاية من غايات الوجود ، بينما يشير المعيار الاجتماعي إلى نمط سلوكي واحد.
2- القيم تتسامى على المواقف الخاصة ، بينما المعيار هو تحديد لسلوك أو منع لسلوك آخر في موقف معين .
3- القيم أكثر شخصية وداخلية بينما المعايير اتفاقية وخارجية.
يعني هذا أن المعايير هي قواعد للسلوك ، بينما القيم هي مستويات للتفضيل مستقلة إلى حد ما عن المواقف الخاصة. والمعايير مع القيم تشكل المادة الجوهرية في الاتصال الرمزي ، مهما بدا هذا الاتصال عفويا وشديد الألفة .
ت‌- القيمة والمعتقد : تنقسم المعتقدات إلى ثلاثة أنواع :
1. وصفية ؛ وهي التي توصف بالصحة أو الزيف
2. تقييمية ؛ التي يوصف على أساسها موضوع الاعتقاد بالحسن أو القبح .
3. آمرة ناهية؛ حيث يحكم الفرد بمقتضاها على بعض الوسائل أو الغايات بجدارة الرغبة أو عدم الجدارة.
فالقيم كالمعتقدات تتسم بثلاث خصائص:
1. أنها معرفية من حيث الوعي بما هو جدير بالرغبة
2. وجدانية؛ من حيث شعور الفرد حيالها إيجاباً كان أو سلبا
3. سلوكية؛ من حيث وقوفها كمتغير وسيط أو كمعيار مرشد للسلوك أو الفعل .
في المقابل يفرق بعضهم بين القيم والمعتقدات على أساس أن القيم تشير إلى الحسن مقابل السيء ، أما المعتقدات فتشير إلى الحقيقة مقابل الزيف.
ث‌- القيمة والسلوك : القيمة هي أكثر تجريدا من السلوك ، فالاتجاهات والسلوك هي محصلة للتوجيهات القيميمة . والقيم تتسم بخاصية الوجوب أو الالتزام التي تكتسب في ضوء معايير المجمتع والإطار الثقافي الذي تنتمي إليه هذه القيم.
• مفهوم نسق القيم : يتضمن نسق القيم نوعين رئيسيين من القيم :
– القيم الغائية؛ وتمثل غايات الوجود الإنساني.
– القيم الوسيطة أو الوسيلية؛ وهي أساليب السلوك المفضلة لتحقيق الغايات المرغوبة.
ومن الضروري التمييز بين مدرج القيم ونسق القيم . فالأول يعني ترتيب الشخص للقيم من أكثرها أهمية إلى أقلها أهمية. بينما يشير الثاني إلى التنظيم العام لقيم الفرد، والذي من خلاله تتحدد أهمية كل قيمة من هذه القيم، وكيف تنتظم ، وما هي علاقة كل منها بالأخرى.
وهذا يعني دراسة بناء القيم والأشكال التي تتجسد فيها بدلا من الاكتفاء بمجرد ترتيبها. أنساق القيم إذا هي المستويات التي نحتكم إليها في عرض ذواتنا أمام الآخرين.
نخلص إلى أن أهم خاصية في عالم القيم هي الصفة التراتبية، أو كما يشار إليها بـ ” سلم القيم ” .
والخلاصة ؛ أنه ليس هناك في الواقع سوى عدد قليل من القيم الجديدة قد تظهر في المجتمعات، وأن أي تغيير في القيم غالبا ما يكون تحولا في تراتبية القيم وتدرجها، أكثر من خلق قيم جديدة.
• تصنيف القيم؛ وهي مسألة خلافية بمقدار ما هي مسألة أكاديمية، انعكاسا للخلاف حول التعريف.
وقدم نيكولاس ريتشر محاولة قيمة لعرض مختلف أسس تصنيف القيم على النحو التالي:
 التصنيف على أساس محتضني القيمة ( كقيم العمل والقيم الشخصية وقيم النخب العليا )
 التصنيف في ضوء موضوعات القيم كـ تقويم الرجال على أساس نسبة الذكاء
 التصنيف على أساس الفائدة أو المنفعة ؛ سواء أكانت هذه المنفعة تتعلق بإشباع حاجة أم اهتمام أم مصلحة.
 التصنيف على أساس الأغراض والأهداف؛ أي تصنيف القيم وفقا للغرض المحدد، أو الهدف الخاص الذي يتحقق بوجودها، مثل القيمة الغذائية للطعام.
 التصنيف على أساس العلاقة بين محتضن القيمة والفائدة؛ في أن تكون ذات فائدة ومصلحة للفرد كالقيم الأسرية والمهنية والجمالية.
 التصنيف على أساس العلاقة بين القيم ذاتها؛ بناء على ارتباط القيم بعضها ببعض،وفي ذلك إثارة لقضية تدرج القيم وفقا لمدى عموميتها. فقيمة الكرم مثلا تحقق قيمة أعلى هي سعادة الآخرين.
وقد خلص ميلتون إلى أن كل قيمة هي نتاج اجتماعي انتقلت إلينا وحفظتها الأجيال المتعاقبة عن طريق أحد النظم الاجتماعية في المجتمع.
تتميز القيم إذا بالعوامل التالية :
1- أنها معتقدات مصدرها الثقافة والتفاعل الاجتماعي، وهي تنطوي على ثلاثة عناصر هي : ( العنصر المعرفي ، والعنصر العاطفي ، والعنصر السلوكي )
2- أنها تفصح عن نفسها في أنماط التفضيل والاختيار بين البدائل المتاحة.
3- تتسم أيضا بالاستمرار النسبي وتخضع في الوقت نفسه للتغيّر، وبالتالي لا يمكننا تصور قيم دائمة دواما مطلقا ، أو دائمة التغير والتبدل.
4- أنها ذات أهمية نسبية تتحدد داخل ما يعرف باسم تدرج أو سلم القيم.
5- تسهم في إعطاء نوع من التماسك لمجموع القواعد والنماذج الثقافية في مجتمع معين.

ثالثا: العادات والأعراف

من بين العناصر الثقافية تبدو العادات الأكثر عمومية، وتنقسم العادات التي يكتسبها الفرد إلى عادات فردية وأخرى جماعية.
العادات الفردية:
هي ظاهرة شخصية يمكن أن تتكون وتمارس في حالات العزلة عن المجتمع. تسهم في نجاح المرء وانسجامه في الحياة . وتعتبر الغريزة أصلا من أصول العادة، وقاعدة من قواعدها ،فإذا ما تكرر الفعل الغريزي وتواتر نجمت عنه العادة وصارت هي الحاكمة.
والعادة لا يتم تكوينها لدى الإنسان إلا تدريجيا، والإقلاع عنها أيضا يتم في الغالب تدريجيا. ولكي يتخلص الإنسان من عادة ضارة ، يجب أن يقاوم الميل إليها كي يستطيع أن يميت تلك العادة تدريجيا.
العادات الفردية لا تستمر إلا لأنها تقوم بوظيفة. فهي تسهل العمل المعتاد، وتجعل تكراره سهلا. وهي أيضا تؤدي إلى قيام الإنسان بأعماله في زمن أقل وبتركيز أقل، فالكتابة والكلام والمشي تحتاج في البدايات إلى وقت وتركيز لن تحتاجهما في ما بعد .

العادات الجماعية

إنها مجموعة من الأفعال والأعمال وألوان السلوك التي تنشأ في قلب الجماعة بصفة تلقائية لتحقق أغراض تتعلق بمظاهر سلوكها وأوضاعها، وتمثل ضرورة اجتماعية تستمد قوتها من هذه الضرورة. لذلك من الصعب على الأفراد الخروج على مقتضياتها. لذلك هي مفهوم يستخدم للإشارة إلى مجموع الأنماط السلوكية التي تبقي عليها الجماعة وتتناقلها عن طريق التقليد والتفاعل مع الآخرين.
وتميل العادات الجماعية إلى الجمود، وتقف حائلا أمام التجديد، ويعتبر البعض هذه الخاصية من عوامل الاستقرار الجماعي، ومع ذلك فالعادات الجماعية قابلة للتطور والخروج على قوالبها الجامدة والقديمة.

الأعراف
أشهر تعريف عند علماء الاجتماعي لـ سمنر :
أن الأعراف هي تلك السنن الاجتماعية التي تدل على المعنى الشائع للاستعمالات والعادات والتقاليد والمعتقدات والأفكار والقوانين وما شابه، وبخاصة عندما تحوي حكما. إنها تحوي جانبا كبيرا لما يطلق عليه الصواب أو الخطأ وذلك من خلال طرق السلوك المتنوعة. وهي يمكن أن تتمثل أيضا في الحكم والأمثال والأغاني الشعبية والقصص الأدبية التي تعتبر مظهرا من مظاهر التراث الثقافي.
والفرق بين العادة الجماعية والعرف هو :
1- تكويني ، فلكي يتكون العرف لا بد من توفر عاملين :
الأول : مادي يتمثل بعادة قديمة وغير مخالفة للنظام العام
والثاني: معنوي يتمثل بأن يشعر الناس بضرورة احترام هذا العرف ، وبأنه يوجد هنا جزاء يقع عليهم إذا خالفوها.
أما العادة فلا يلزم لنشوئها إلا توفر العامل المادي، وهم يحترمونها بالتعود. وهكذا العادة عرف ناقص .
2- اختلاف من حيث الأثر : فالعرف قانون يطبق على الناس سواء رغبوا بتطبيقه أو لا . وأما العادة فهي ليست كذلك . وتطبق عليهم إذا قصدوا إتباع حكمها.

رابعا: التقاليد والشعائر والطقوس

سوسيولوجياً اكتسب مفهوم التقليد بعدا جديدا يعبر عن مدى ارتباط حاضر المجتمع بماضية، كما يشكل أساس مستقبله. ولهذا جاء ليعبر عن ارتباط الإنسان بماضيه ومحاولة بعثه من جديد من خلال الاحتفالات والمناسبات. والتقاليد : نمط سلوكي يتميز عن العادة بأن المجتمع يقبله عموما دون دوافع أخرى، عدا التمسك بسنن الأسلاف.
التقليد إذا ما هو إلا عادة فقدت مضمونها، ولم يعد من الممكن أحيانا التعرف على معناها الأصلي، وإنما يمارسها الإنسان لمجرد المحافظة، وهو في الأخير شكل من أشكال الرواسب الثقافية في المجتمع ، لها السلطان على نفوس الأفراد.
تغيير التقاليد يحتاج عادة إلى كسر في النظام السياسي الاقتصادي القائم. وإما أن تحدث كارثة طبيعية تغييرا جذريا في معالم الواقع السابق.
يرافق التقليد سلسلة من العادات يمكن للناس أن يقوموا باستبدالها بسهولة، دون إثارة ضجة تذكر .
وتتميز الشعائر عن العادات الفردية بأنها مصحوبة دائما بحس خاص بالجبرية أو الإلزام عند الذي يحيد عنها على أية صورة. والمظهر الغالب للشعائر أنها من طبيعة دينية ، تنطوي في جانب منها على مجموعة من المحرمات المقدسة المعروفة باسم التابو .

الشعائر والطقوس

وبقصد بالشعائر الدينية مجموعة الأفعال المرعية والممارسات التي تنظمها قواعد نظامية من طبيعة مقدسة أو موقرة ذات سلطة قهرية ملزمة ضابطة لتتابع بعض الحركات الموجهة لتحقيق غايات ذات وظيفة محددة.
والشعائر ليست إلا طقوسا اجتماعية، والاحتفال العام المصاحب لها الغرض منه تعيين أهمية المناسبة. ووظيفتها رمزية باعتبارها أداة تنظيمية للوحدة الجماعية تعمل على تثبيت قواعد السلوك الجمعية، لأنها تتكرر بصفة انتظامية.

خامسا: التراث الشعبي
يتجلى التراث الشعبي في عناصر كثيرة منها :
الفولكلور
ظهر هذا المصطلح عام 1840 في الانكليزية باستخدامه من قبل العلامة توماس ويتألف من قطعتين ” Folk ” بمعنى الناس و ” Lore ” بمعنى معرفة أو حكمة. وعليه فمعنى كلمة ” Floklore” حرفيا هو : معارف الناس أو حكمة الشعب. وهو استخدام ليدل على العادات والمعتقدات والآثار الشعبية القديمة المأثورة.
يمكن القول أن المتخصصين بالفولكلور قد حددوا ميدانه في تلك الفنون التي تمتاز بعراقتها وانتقالها عن طريق التقليد والمحاكاة أو النقل الشفهي . وهي غالبا ما تكون مجهولة المؤلف. وتحتل الخرافات والأساطير حيزا مهما في هذا المجال.
يتضمن التراث الشعبي اعتقادات متنوعة منها :
• الاعتقاد بالكائنات العلوية والسفلية.
• طقوس الدخول والخروج الواجب أتباعها كالانتقال من مكان إلى آخر .
• الاعتقادات الخاصة بالتشاؤم والتفاؤل
• استقراء الغيب والكشف عن المستقبل
• الإيمان بالسحر والتعزيم
• الاعتقاد بالأولياء والوسطاء والإيمان بالهبات والقرابين
• الاعتقاد بالطب الشعبي
• الحكايات والأدب الشعبي.
خصائص الثقافة الشعبية
أ‌- الإلزام
وقد أشار دوركايم إلى خاصية القهر والإلزام فيما أسماه بالعقل أو ” الضمير الجمعي ” الذي جعل منه ” فكرة قاهرة ” متحققة في ذاتها، خارجة عن إرادة الأفراد المكونين للجماعة من ناحية، ومرتبطة بفكرة القداسة والإلوهية من ناحية أخرى ومن أهم الخصائص التي يتصف بها هذا ” الضمير الجمعي” في نظره:
– أنه يمارس سيطرة فعلية على ضمائر أفراد الجماعة.
– أنه يتمتع بقدرة الإلزام والنهي الأخلاقي.
– يتصف بالعموم والشمول المطلق
– يستمد سطوته وسيطرته بما يتمتع به من قداسة وتبجيل
– أنه القوة المحركة للفاعليات الاجتماعية والضابطة للتصرفات السلوكية الفردية والجماعية.
وفي كل المجتمعات توجد درجات ومستويات وأشكال كثيرة للإلزام.
ب‌- التلقائية
لأن أساسها المحاولة العشوائية في سد الحجات الطبيعية الضرورية وإشباعها، والتي تتحول مع الوقت إلى عادات فردية وجماعية.
ت‌- غير مدونة
ث‌- الاستمرار والثبات.
ج‌- الجاذبية
فهي تقوي الحماس والتعصب في بعض الأحيان للموروثات الثقافية، وتدفع بالتالي إلى مقارنة كل حدث غريب يحاول أن يعدل فيها . وبالكيفية نفسها ينشأ التعصب الأعمى للعادات الجمعية التي تعتبر امتدادا للثقافة الشعبية. وهذا يشير إليه مصطلح ” التمركز حول الذات الجمعية ” الذي ينطوي على تمسك الجماعة وتعصبها لعناصرها الثقافية التي تتمتع بسلطة اجتماعية قاهرة. والتي ينشأ عنها شعور عميق بالحدود النفسية والاجتماعية التي تغلق إطار التضامن والعصبية في داخل الجماعة، والتي تباعد المسافة الاجتماعية بينها وبين الأفراد الذين ينتمون إلى جماعات أخرى. لذلك تعتبر الثقافة الشعبية وسيلة فعالة لإدماج الفرد في مجتمعه، فهي وإن كانت تمارس الضغط على الفرد لكي يتماشى مع أساليب الجماعة التي ينتمي إليها، إلا أنها من ناحية أخرى تكسب الجماعة التجانس اللازم لتحقيق التكافل والتكامل الاجتماعي.

للثقافة الشعبية إذا وظائف متعددة. أهمها وظيفة الضبط
الاجتماعي.
******************************************
ملاحظة : هذه الدراسة هي تلخيص مكثف لأحد الفصول من كتابي سوسيولوجيا الثقافة المفاهيم والإشكاليات … من الحداثة إلى العولمة الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ، 2009

البعد الرمزي في الثقافة الدال والمدلول و سيميائية الثقافة بقلم الدكتور عبد الغني عماد

البعد الرمزي في الثقافة
الدال والمدلول و سيميائية الثقافة
بقلم الدكتور عبد الغني عماد
****************************************

إن انقياد السلوك الخارجي للنماذج والأنماط السلوكية السائدة يرمز إلى انتماء الشخص الفاعل إلى نظام معين من مراتب القيم. وأي انتماء إلى القيم يرمز بدوره إلى الانتساب إلى مجتمع بعينه أو إلى جماعة معينة. لذلك يظهر عالم النماذج والقيم كعالم رمزي كبير.

أولاً: تعريف الرمزية

الرمزية لغة مصدر مشتق من فعر رَمَزَ، يرمُزُ ، رمزاً، بمعنى أومأ وأشار. ورمز إلى أي أشار أو دلّ. والرمز يدل على الموضوع أو التعبير أو النشاط الإنساني- الاجتماعي الذي يوحي بفكرة أو يشير إلى قيمة شيء ما إشارة مجردة، ويحل محلها ويصبح ممثلاً لها وبديلا عنها. إنه يستخدم استخداما مطرداً ليمثل مجموعة من الأشياء، أو نوعا من أنواع العلاقات الاجتماعية أو الفكرية أو الروحية. ويقال ” الرمز الاجتماعي” حين يشترك فيه أفراد المجتمع، كالرموز التي تمثلها الميثولوجيا والفولكلور، والرموز الوطنية والقومية والإنسانية وغيرها.

الرمزية مذهب من مذاهب الأدب والفنون بصورة عامة، يعبر عن المعاني الخفية أو الضمنية والانطباعات النفسية عن طريق الإيحاء والتلميح والدلالة غير المباشرة، بدلا من الأسلوب التقريري المباشر، وذلك كي يشارك القارئ أو الناظر أو السامع في فهم الفكرة أو تكملتها أو الإضافة إليها من خياله. كما أن هذا الاصطلاح يتضمن أشكالاً عديدة من أنماط السلوك، ومن عملية إعطاء معانٍ لأشياء خاصة، بحيث يصبح في إمكان الجزء أن يعرب عن الكل ويعبّر عنه ويشير إليه.
كذلك تعتبر الرمزية في مدرسة التحليل النفسي طريقة أولية في التفكير تظل في اللاشعور حيث تخفي معاني الأحلام. ويمكن التوصل إلى معنى الرمز عن طريق التداعي الحر للأفكار الذي يقوم به صاحب الحكم.
سوسيولوجياً يذهب التعريف إلى القول إن الرمز هو ” شيء ما يحل محل شيء آخر ويستدعيه ” . أي كلمة تحل رمزياً محل شيء تثير ذكراه .

يتطلب الرمز إذا ثلاثة عناصر :
– دال؛ وهو الشيء الذي يحل محل شيء آخر .
– مدلول؛ الذي يحل الدال مكانه.
– الدلالة؛ العلاقة مابين الدال والمدلول.
وجميع الرموز الاجتماعية تقريبا ليست في الواقع إلا كناية عن علاقة عرفيّة مع مدلولها. وهذا ما يفترض وجود عنصر رابع للرمزية، وهو وجود اصطلاح ( Code) محدد للعلاقة بين الدال والمدلول، وهذا الاصطلاح يجب أن يكون معروفا ومكتسباً من جهة العناصر- الفاعلة التي تتوجه إليها الرموز، حتى تصبح هذه الرموز ذات دلالة ومعنى.

البعد الرمزي أوجد عمليا الفرق الأساسي بين الإنسان وباقي الكائنات، وهو بعد يتمثل في إنتاج الرموز واستعمالها كمحصلة لتطور بطيء ومتدرج استمر مئات السنين. بواسطة الكلمات مثلا.

هذا الاستعداد الذي يمتلكه الإنسان لاستعمال الوقائع ومعالجتها رمزيا، قد أدى إلى بسط نفوذه وسلطانه على العالم بما لا يتناسب بأي حال مع قوته المادية، وهو بهذا التقدم الخلّاق، مدين إلى كيفية استخدامه وإنتاجه للرموز التي استطاع أن يوظفها على أفضل وجه. وما كان هذا ليحدث إلا بالتفاعل الاجتماعي، فالمجتمع هو المؤتمن على الرموز المتراكمة، والثقافة هي الحافظة لها.
والسيميائية مشتقة من الكلمة الاغريقية semeion وتعني اشارة signو ويطلق مصطلح السيميولوجيا ليعني دراسة الاشارات ويمتاز المنهج السيميائي للثقافة بتركيزه على مجموعات اشارية او انظمة اشارية لدارسة علاقتها بعضها ببعض . ومن هذا المنطلق تتكون الثقافة من انماط – انظمة – من الاشارات وهذا ما يجعل الثقافة نابضة بالمعنى والحياة بل والتناقضات.

ثانيا : وظيفة الرمز

الأولى؛ هي وظيفة الاتصال
الثانية؛ هي وظيفة المشاركة .

يستخدم الإنسان وسائل عديدة للتعبير عن حالته النفسية وأفكاره أهمها :
– اللغة الانفعالية أو العاطفية كـ :
• الإشارات والرموز المستخدمة للتعبير
• لغة الفنون وإشاراتها
• الأصوات وهي تستخدم بكيفيات متعددة. فاللغة المحكية تستعمل مجموعة من الأصوات كي تؤلف تنوعاً كبيرا من الرموز هي ” الكلمات ” .
• لغة العلوم وهي أكثر اللغات تجريداً .
إن هذه الأشكال المختلفة من الاتصال تؤلف أول مستوى من الرمزية، عدا لغة العلوم التي تقوم على المفاهيم، فهي تشكل المستوى الثاني. ذلك أنها تصورات عقلية تحل مكان الأشياء، ومع أنها شخصية، إلا أنها نتاج اجتماعي يخص عدداً كبيرا من الناس. فمفاهيم الفضيلة والخير والشر والحق والباطل ، بل الحرية والمساواة يعود جميعها إلى فعل التفاعل وإلى النشاطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
والارتباط بين اللغة والمفاهيم ارتباط وثيق وثابت، ولا تعبر المفاهيم عن ذاتها فقط عبر الكلمات، إنما توجد الكلمات وتولدها أيضا وتؤدي إليها.

واللغة عمل وفكر في وقت واحد. فلا يوجد كلام لمجرد الكلام أو كتابة لمجرد الكتابة، فهذا فعل وظيفية له غاية.
بالإضافة إلى الاتصال، فإن الرموز لها وظيفة أخرى تتعلق بالمشاركة. إنها تستخدم بصورة فعالة في تحسين الحقائق المجردة، العقلية أو الأخلاقية، في المجتمع وتجعلها مرئية وملموسة. وهي بهذا تسهم في التذكير والمحافظة على مشاعر الانتماء وفي إثارة أو تأمين المشاركة التي تلائم الفاعلين بحسب الوضع والدور الذي يحتلونه، وتسهم بالتالي في إقامة ” النظام الاجتماعي الطبيعي” واستمراره، ومتطلبات التضامن الذي يفرضه. وبحيب غيّ روشيه يمكن حصر أنواع الرموز بالأوجه التالية :
1- الرموز الدافعة إلى التضامن :
فهي لا تساعد فقط على تقديم الجماعات وتمثيلها بصورة حسية، بل يمكن كذلك أن تستخدم من أجل أن تثير أو تنمي شعور التضامن والانتماء عند الأعضاء. وقد يصل أحد هذه الرموز إلى حد القداسة الأسطورية.
2- الرموز المحددة للتنظيم التراتبي للجماعات :
يترافق مع جميع أشكال التراتبيات الاجتماعية نوع من الرمزية في غاية الغنى، تظهر التميّزات في المرتبة والنفوذ بوضوح وجلاء. ومن الطبيعي أن يكون للسلم الاجتماعي أسس أخرى، إلا أن الرمزية التي تحيط به، تلعب دورا تعبيراً مهما، بل هي في الحقيقة تقوم بتثبيت السلم الاجتماعي وتزيد من صلابته.
واللباس في هذا المجال له دلالة عميقة، فبحسب الثياب، وإضافات التزين التي تلازمها ، تقوم أول درجة من التعارف الاجتماعي.
3- الرموز التي تشد الحاضر إلى الماضي :
تعمد الذاكرة الجمعية إلى الرمزية بكثرة، ويكفيها لذلك بعض أسماء الشخصيات العظيمة المحاطة بهالة من الأساطير، كما يكفيها بعض التواريخ وبعض الأماكن والحوادث المحملة بالذكريات.
إن الذاكرة الجمعية ليست إلا عاملاً من العوامل الأكثر قوة في التضامن الاجتماعي، ذلك أن الرموز التي تستخدمها مثقلة بالمعاني، وأن الذكريات التي تثيرها هذه الرموز محملة بانفعالية جماعية، فهي مصدر مشاركة نفسية، وتقريبا بيولوجية، إنها تقدم تفسيراً للحاضر ودروسا من أجل المستقبل، وهذا ما يكفي حتى تساهم بقوة في تضامن الجماعات، وفي المشاركة بين أعضائها، وفي وجهة الفعل الفردية والجماعية.

4- الرموز التي تستحضر القوى الدينية والسحرية:
فالرمزية الدينية تفصل في نسيج المجتمع ذاته، من أجل أن تنشئ فيه التجمعات وترسم الحدود وتقيم التراتبيات، سواء من حيث اللباس أو الطقوس، فالدين غني بالرموز التي تفرق حتى تجمع بشكل أفضل. إنه ينشئ الفرز الضروري ليكتمل المشهد الديني.
الحياة الدينية بالإضافة إلى ذلك نشاط اجتماعي. إن العلاقات بين الانسان وعالم ما بعد الطبيعة هي في جانب كبير منها روابط بين الأشخاص، يجمعها كثير من التشابه والصلات والروابط الاجتماعية. فالرمزية الدينية تغتني من السياق الاجتماعي، وتعبر في كثير من الأوجه عن الوقائع الاجتماعية.
وإذا كان الدين والسحر يحملان في طياتهما رموزاً متنوعة كثيرة الغنى، فذلك لأنهما يرجعان إلى عالم غير منظور، لا يمكن طرقه أو الدخول فيه مباشرة، لذلك ينبغي عليهما أن يسلكا الطريق الرمزي لإبقاء الإنسان على اتصال واحتكاك بهذا العالم.
وهكذا نخلص إلى أن عالم القيم المثالي لا يتحول إلى الواقع إلا من خلال الرموز، وبالتالي فإن بنية الفعل الاجتماعي هي نتيجة شبكة مجموع العناصر المتدرجة والمتداخلة والمترابطة. والبعد الرمزي فيها يتيح المجال للوصول إلى المفهوم الأكثر تحديداً من ناحية الميكروسوسيولوجيا. إن التفاعل الرمزي يتخطى الثقافة بأهميته، ذلك أنه يمكن اعتبار الثقافة شيئا خارجا عن فكر الإنسان وعقله. لذلك نعتبر التفاعل الرمزي مادة تشكل لبّ الشخصية والهوية، والتي بدونها لا يمكن إقامة التواصل مع الآخرين.

ثالثا : الممارسات الرمزية

لقد كانت نقطة الانطلاق لهذا النوع من الدراسات أن العلاقات الطبيعية ليتس فقط علاقات اقتصادية ، بل هي علاقات قوة وعلاقات معاني معاً.
بورديو كرّس عمله الأساسي على توزع شكل آخر من أشكال الرأسمالية وهو ” الرأسمال الثقافي ” بشكليه : ” الرأسمال المدرسي ” الذي تحدده الشهادة وسنوات الدراسة، و ” الرأسمال الثقافي الموروث” المتناقل عبر الأسرة. والمقارنة بين هذي الأساسي للعملية التراتبية ( الاقتصادي والثقافي ) يبرز في الحقيقة بنيتين من التوزع التناظري والمقلوب، حيث تنتظم ضمن الطبقة المسيطرة ” بنية بوجهين” أو بنيتان مقلوبتان، حيث يبدو أن البعض ( الصناعيون والتجار ) يمتلكون رساميل اقتصادية، ونسبياً ، كمية أقل من الرساميل الثقافية، بينما الآخرون ( الأساتذة مثلا ) يمتلكون رساميل ثقافية، ونسبيا كمية أقل من الرساميل الاقتصادية. هذه البنية المقلوبة تتجدد داخل الطبقات المتوسطة، حيث تتميز بعض شرائحها بمستوى أعلى من التحصيل الثقافي عن شرائح أخرى مالكة أكثر للرأسمال الاقتصادي. هذا الأساسان لعملية التراتب يحددان بسلبية ” الطبقات الشعبية” غير المالكة للرأسمال الاقتصادي والمتميزة برأسمال ثقافي ضعيف.
يضيف بورديو إلى هذين الشكلين من الرأسمال شكلا ثالثا هو الرأسمال الاجتماعي ” المحدد أساسا بمجموعة العلاقات الاجتماعية، والذي من الممكن أن يخفي في ذاته أصوله الاجتماعية وأن يستخدم كرأسمال. وهو يميز أيضا بين الرأسمال المكتسب ( المدرسي مثلا ) والرأسمال الموروث أو المندمج اللذين قد يتداخلان، إنما قد ينفصلان بالنسبة إلى المفاعيل. ويتوسع بورديو أكثر في هذا التصور عن ” الرأسمال ” الذي يعتبره طاقة اجتماعية قابلة لأن تنتج مفاعيل، ووفقه هذا التعريف تصبح كل طاقة قابلة لأن تكون مستخدمة ( بشكل واعٍ أو لا واعٍ ) كأداة في عملية التنافس الاجتماعي بمثابة رأسمال.
لذلك يخلص إلى أنه من الأفضل الأخذ بعين الاعتبار كل ” الملكيات ” التي يستخدمها الناس في ممارساتهم، بدلاً من الاقتصار على التعريف الضيق للرأسمال. فمجموع هذه الرساميل والملكيات هي التي تتيح بناء المدى الاجتماعي.
إن إدراك هذا المدى الاجتماعي ليس سوى تمهيد لإعادة النظر بالممارسات الاجتماعية انطلاقا من الأوضاع الاجتماعية ومن الأبيتوس ضمن حقل معين. إن دراسة الصراعات ضمن هذا المنظور تكشف الأبعاد المختلفة للوقائع والظواهر .
ويتوسع بورديو في مؤلفه المعنون بـ التمايز بهذه التحليلات ويدخل إلى عملية الاستكشاف الواسعة ممارسات اجتماعية من التمايز والفرقة بين الطبقات الاجتماعية المتنوعة، وهي الممارسات التي تتجدد باستمرار وتحدث ضمن المدى الاجتماعي المتراتب في حقل الإنتاج، وفي ميدان الاستهلاك، وتحديداً ضمن ميدان الأذواق والتي هي ظاهراً فردية ومتنوعة.
يؤدي هذا النوع من التحليل إلى التشديد على أشكال ” التنافس” التي تخلق دينامية في مختلف الحقول . ففي حقل إنتاج الثروات الرمزية مثلا نرى كما في حقل إنتاج الثروات المادية أوضاعاً مميزة، بعضها مسيطر والبعض الآخر مسيطر عليه، يحركها دون انقطاع، المنافسات حول إنتاج هذه الثروات.
يعمد بيار بورديو إلى تظهير تفاعلات ” حقل الانتاج الرمزي ” الذي يضمن المنتجين ( العاملون في حقل الثروات الفنية كالفنانون مثلا ) فهؤلاء موضوعون ضمن نسق مستقل نسبياً، نسق من المواقع والعلاقات والمنافسة، كونهم منخرطين ضمن عملية المزاحمة نفسها للحصول على النفوذ والسلطة. لقد اكتسب حقل الإنتاج هذا ( ضمن ميدان الفن مثلا ) استقلاليته بالتدريج، بدءاً من عصر النهضة، ونتيجة تراخي العلاقات السابقة، الدينية أو السياسية. ولقد أكدت نظرية الفن للفن الرومنطيقية هذه الاستقلالية بإعلانها الاستقلال التام للفنان بالنسبة إلى منتج الثروات المادية.
فالثروة الرمزية ( اللوحة، القصة ، المسرحية) إذا ما كانت ثروة اقتصادية، هي حقيقة واقعية ” ذات وجهين ” ، سلعي ودلالي، والقيمة السلعية والقيمة الرمزية مستقلتان نسبيا. وهكذا نتبين أن إنتاج الثروات الفنية غير خاضع قسراً لقوانين السوق الاقتصادي.
هذه الإشارات المتعلقة بحقل الإنتاج الرمزي الذي هو حقل إنتاج ضيق تختلف مفاعليها في الحقل ذي الإنتاج الضخم والاستهلاك الكبير ، والذي يخضع لضغوطات بنيوية مغايرة، كونه يتطلب رؤوس أموال اقتصادية كبيرة، وكونه يدخل في حساباته اهتمامات المردودية والجدوى.
يركز بورديو على نسق التعليم باعتباره مكان نقل الثقافة الشرعية بل مكان فرض التعسف الثقافي الذي ينتج التدابير الثقافية اللامتكافئة، وبالتالي تدابير إعادة إنتاج النظام القائم.
هذا الموقع المميز لنسق التعليم في إعادة الإنتاج الاجتماعي يظهر جليا في الاصطفاء الإيجابي والسلبي الذي يحققه. فالرأسمال اللغوي هو رأسمال مختلف حسب الطبقات الاجتماعية بدءاً باللغة البرجوازية، وصولاً إلى اللغة الشعبية، لذا فإن اصطفاء إيجابيا سيمارس لصالح أولئك الذي يملكون وسائل لغوية تفرضها المدرسة، وهي الوسائل الموجودة بشكل كبير في اللغة البرجوازية، والتي تكشف عن ميل نحو التجريد والعقلانية، ونحو تخفيض التوريات أي كل المميزات التي تشكل جزءاً من المعايير الألسنية للمدرسة.
لاشك في أن المدرسة بحسب بورديو وظيفة واحدة هي تجديد التعسف الثقافي وفرض شرعية الطبقات المسيطرة، غير أن هذا الفعل المحدد للمدرسة يجهله غالبية الناس. فالمدرسة في المحصلة تبني توافقا مع بنية علاقات الطبقات وفق طرائقها الخاصة في تجديد السيطرة عن طريق المواربة في فرض الثقافة المسيطرة كثقافة مشروعة. وهو بهذا يمارس العنف الرمزي عن طريق فرض الإبيتوس المطابق لترتيب الطبقات الاجتماعية. إنه يمد الطبقات المسيطرة بفيض من الشرعية بتأكيده امتلاكها الثقافة.
فالنظام المدرسي بشكل خاص يؤمن وظيفة المشروعية هذه عن طريق فرض اعتراف الطبقات المسيطرة عليها بمعارف الطبقات المسيطرة. هكذا نرى أن المدرسة تشارك في فرض السيطرة دون عنف بارز، أي في فرض السيطرة ” بلطف ” . ويخلص في دراسة ميدانية له أن ديمقراطية التعليم في المجتمعات ذات التركيب الطبقي لم تقض على الوراثة الاجتماعية، فقد ثبت أن المتعلمين يرثون حظوظ الفئات الاجتماعية التي يتحدرون منها.
إن قراءة أعمال بيار بورديو تبين أن مفهومه العام عن المجتمع يشدد بخاصة على الموضوعية ” وإعادة الإنتاج” وتجدد العلاقات الطبقية.

المعرفة إذا توظف اجتماعيا، وهذا لا مهرب منه حتى في مجال الذوق السليم. ودراسة بورديو تقوم على أسس تجريبية ومنطقية، فهي تلجأ إلى الاستمارة والتحليل الإحصائي والسوسيولوجي، وهو يعتمد هذه المنهجية في كشف آليات وأبعاد التذوق الثقافي أو النفور الثقافي.
ودراسة بورديو ودرابيل تبين أن سبر أغوار الظاهرات الثقافية ليس بمستحيل سوسيولوجيا، بل هو ممكن في اتجاهين:
– الأول؛ هو كشف الظاهرة في وعي الناس.
– الثاني؛ من خلال كشف الظاهرة في ممارسة الناس
**********************************************************
ملاحظة هذه الدراسة هي تلخيص مكثف لأحد الفصول من كتابي : سوسيولوجيا الثقافة
المفاهيم والإشكاليات … من الحداثة إلى العولمة
الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ، 2009

حفريات تربوية وسوسيولوجية بين تعدد النظريات واخفاق التطبيقات – قراءة في كتاب علم اجتماع التربية للدكتور عبد الغني عماد

حفريات تربوية وسوسيولوجية بين تعدد النظريات واخفاق التطبيقات – قراءة في كتاب للدكتور عبد الغني عماد

مراجعة: الدكتور عبد الحكيم غزاوي·

الكتاب : علم اجتماع التربية : الاتجاهات والمدارس والمقاربات. منتدى المعارف، بيروت، 2017( 153ص)

    يشكل كتاب الدكتور عبد الغني عماد، أستاذ العلوم الاجتماعية والعميد السابق لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، اضافة نوعية متميزة الى مؤلفاته العلمية الغزيرة والتي تشكل بتكاملها مشروعاً فكرياً نقدياً لحال مجتمعاتنا وواقعها الأليم، فمن سوسيولوجيا الثقافة إلى إشكاليات الهوية والمعرفة والدين، يصدر مؤلفه في علم اجتماع التربية الاتجاهات والمدارس والمقاربات ليستكمل من خلاله حفرياته المعرفية المعمقة مقدماً لنا تحليلاً نقدياً كاشفاً لتعدد النظريات وتناقضاتها من جهة وإخفاق التطبيقات وقصورها من جهة أخرى في الحقل السوسيولوجي التربوي. وهو إنتاج علمي جديد يقدمه المؤلف مستوعباً الأدب النظري السوسيولوجي في حقل التربية دون الوقوع  تحت سطوة مدارسه الغربية التي يدرسها ويقدمها من مصادرها بسلاسة وبأسلوب تحليلي ونقدي يتجاوز بمنهجيته التكاملية الطروحات التقليدية المتواترة في مقاربة المسألة التربوية العربية وإشكالياتها، وهو ما يشكل محاولة جادة للخروج من مأزق التكرار والتبني للجاهز ومتاهة التقليد والمحاكاة والتماهي الفكري مع منتجات الغرب ومدارسه المتعددة والمتنوعة.  

  يذهب الكتاب منذ البداية إلى اعتماد منهج النقد والتفكيك وإعادة البناء محاولاً تقديم قراءة جادة ورصينة ومعاصرة للفكر السوسيولوجي التربوي في اطار جدلية التفاعل بين عناصر الحياة التربوية ليقدمها لنا في نسيج تتضافر فيه رؤية فلسفية وعلمية تتصف بالعمق والمعاصرة. فالكتاب رغم عرضه للنظريات التربوية السائدة باتجاهاتها المثالية والليبرالية والمادية يتجاوز الاستعراض النظري، إذ يقدمها على أرضية الاختبار التطبيقي ونتائجه من جهة، ويضعها تحت مبضع النقد والتحليل، مقرراً منذ البداية أن يتفرد في انتاج مداخل مركبة ومتجددة لفكر تربوي يمكنها ان تغني وتضيف من واقع الحياة العربية الإسلامية وخصوصياتها ما يجعل التربية العربية في حالة تفاعل مع منتجات العقل الإنساني في عصر العولمة وفي نسيج فكري تتكامل فيه الحداثة التربوية بمعطيات الواقع السوسيولوجي للمجتمع  العربي بكل ما ينطوي عليه من اشكاليات.

  • مقاربة جدلية في كواليس التربية والمجتمع

  في هذا الكتاب نجد أنفسنا، إزاء مقاربة جدلية ومركبة للتربية، متشبعة بحداثة لا تتعارض مع خصوصيات مجتمعها، بالقدر الذي تتكامل فية مع كل منتجات العقل التربوي المعاصر، في قالب يضع الأسس التربوية الثلاثة ( الإنسان المجتمع والتربية) في علاقة جدلية تكاملية كأصول تتفرع منها الفروع وعلى قاعدة الانطلاق المنهجي من الماكرو الى الميكرو في بحثه حول إشكالية التربية التي كتب عنها كثيراً. لذا جاء منهج الكتاب يبحث أولا في ماهية التربية واشكالياتها مبتدئا من الجذور ومتتبعاً تاريخ تطورها ودورها في رقي المجتمعات وبناء الحضارات ليتسنى للقارئ معرفة ما نتج عن هذا التطور من تباين واختلاف في فلسفتها وأساليبها وأهدافها، كاشفاً معالم ومخاطر البعد الواحد للتربية مبرزاً أهمية التربية الشاملة التي تسعى إلى تحقيق التوازن والتكامل بين الاركان الثلاثة للتربية في كل العصور.   

 يناقش الكتاب المداخل الجديدة في سوسيولوجيا التربية ومفاهيمها النظرية والتطبيقية  ومصطلحاتها الإجرائية وخطواتها المنهجية. فهو لا يجادل في أهمية التربية ومحوريتها في حياة الشعوب وتاريخ الحضارات، لكنه يتوقف عندها بحكم طبيعتها التي تشكل منظومة غاية في التعقيد، سواء بسبب علاقتها المتشابكة مع ما يؤثر فيها من عوامل خارجية متأتية عن منظومات اجتماعية أخرى، أو بسبب العناصر المتداخلة المنبثقة من حركتها الداخلية بين المعلم والمتعلم والمادة والمنهج، وما استجد ويستجد من طرق ووسائل تزداد يوماً بعد يوم تطوراً وتحديثاً في منهجيات نقل المعرفة وتوصيلها. والحال أن المجتمعات كانت دوماً تتطلع إلى تطوير نظم التربية فيها، دون أن يكون هناك طريق واضح ومحددا لذلك، هكذا كانت إشكالية التربية حائرة معرفياً تتنازعها مداخل عدة بدءاً بفلسفة العلوم ونظرية المعرفة وصولاً إلى علم النفس وعلم الاجتماع.

   لعل الطموح الذي تتطلع إليه التربية في رأي المؤلف يشكل أحد معالم إشكاليتها، فهي تسعى إلى الجمع بين تلبية حاجات الفرد ومطالبه من جهة، وتلبية حاجات المجتمع ومطالبه من جهة ثانية، بين تحرير الفرد وإطلاق قدراته وتنمية إرادة التغيير لديه من جانب، وبين أن تفرض عليه أنماطاً وقوالب محددة من الانضباط والانقياد لحفظ استقرار المجتمع وتطوره من جانب آخر. لذلك تبدو المهمة الصعبة أمامها في إيجاد التوازنات بين الخاص والعام، بين ما يحبه ويرغبه الأفراد ومتطلبات السوق والعمل، بين حاجات المجتمع التنموية ورغبات السلطة وارغاماتها الايديولوجية، وهي تناقضات ممتدة إلى مجالات وأبعاد مختلفة في فلسفة التربية ووظائفها تبدأ بالروحي والاخلاقي والمادي لتتصل بالتقليد والحداثة، إلى التوفيق بين مبدأ تكافؤ الفرص والحاجة للتنافس، أو التوسع في المعارف والقدرة على استيعابها…الخ.

   والواقع أن نقد التربية ومؤسساتها ليس جديداً، لكنه كان يجري في الغالب وكأنها كيان مستقل بذاته، لا صلة له بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لذلك اهتم علم اجتماع التربية، وخاصةً في توجهاته الحديثة، في بلورة الأبعاد الاجتماعية المتعددة والمؤثرة في النظام التربوي بقدر اهتمامه بدراسة ديناميكيات عملية التربية ذاتها.

  • بين الماكرو والميكرو قراءة تفكيكية لاشكاليات التربية

   وهذا الكتاب في فصوله الستة إذ يناقش أبرز تلك الإشكاليات المعاصرة التي يدور حولها النقاش والسجال في الأدبيات النظرية الحديثة لسوسيولوجيا التربية، إنما يقدمها في إطار نقدي وجدلي نظراً لما اثارته هذه الاتجاهات والمدارس النظرية التي تشكلت على ضوئها، والتي لا تزال حتى اليوم تتمتع بجاذبية معرفية للحوار والنقاش والسجال.

   الفصل الأول يطرح إشكالية تطور الفكر التربوي ومساراته بين الفلسفة والتاريخ والعلم، وصولاً إلى عصر المعلومات وما يفرضه من رؤى جديدة في هذا الحقل المعرفي. في حين يذهب الفصل الثاني إلى تحديد مجال التربية في علم الاجتماع متتبعاً تأسيس الحقل العلمي من خلال أبرز ما طرحه الرواد المؤسسون في علم الاجتماع تحت عنوان التربية في السياق المجتمعي.

   يتبنى الكتاب تصنيفاً ثلاثي الأبعاد للاتجاهات والمقاربات النظرية في مجال سوسيولوجيا التربية، فيطرح في الفصل الثالث الاتجاه الوظيفي مناقشاً نظريتي التحديث ورأس المال البشري، وفي الفصل الرابع الذي يتمحور النقاش فيه حول المقاربة الراديكالية والاتجاه النقدي، حيث يتم طرح الأطر النظرية والعملية التي تأسست حولها أطروحات صمويل بولز وهربرت جنتز، كما مايكل أبل، وايفان ايلش، وباولو فريري، وبيار بورديو. في حين يخصص الفصل الخامس لعلم اجتماع التربية الجديد تحت عنوان من الماكرو إلى الميكرو، فيعرض لأطروحة ريمون بودون في المنهجية الفردانية، كما يناقش المقاربات الفينومينولوجية، والتفاعلية الرمزية، والاتنوميتودولوجية في المنظور الجديد للتربية، ويتوقف عند مايكل يونغ ونظريته في علم اجتماع المعرفة التربوية.

 يطرح المؤلف في الفصل السادس تحت عنوان ” سوسيولوجيا البحث العلمي والباراديغم التربوي الجديد ” مسائل تتعلق باخطر ما يتصدى له علم اجتماع التربية الحديث، ويتجسد ذلك عبر خلق البيئات العلمية الملائمة لانتاج المعرفة والبحث العلمي في الإنتاج والتطوير، وهو ما يعكس ازدياد الاهتمام بعلاقة التعليم بسوق العمل وبالمساءلة، والجودة، والإنتاجية، وأيضاً بالتاثيرات المتوقعة ” للثورة الرقمية “، التي سادت الحقبة الأخيرة من القرن العشرين وطالت فلسفة التربية والتعليم برمتها. فما يسمى اليوم “المجتمع الرقمي” و” المجتمع الشبكي”  إنما يعني في دلالاته العميقة ثورة معرفية طالت في الصميم البيئة التعليمية في مرتكزاتها الاساسية، بحيث دخلت مفاهيم وأدوات مجتمع المعرفة الى قلب بيئة التعليم من أوسع أبوابها وتنوعت أوجه استخداماتها وتأثيرها ما بين تطوير تقني لهذه البيئات وتحسين لخصائصها ووظائفها من جهة  وبين المناهج والمضامين التعليمية المعتمدة من جهة اخرى.

  • الاشكاليات المعاصرة لسوسيولوجيا التربية على ضؤ البراديغم الجديد

لهذه الاسباب يرى المؤلف ان عملية التربية والتعليم بصورة عامة والتعليم العالي بصورة خاصة شهدا في كثير من بلدان العالم خاصة الغربية منها خلال العقدين الأخيرين حركة إصلاح جذرية تمثلت في إدخال مفاهيم جديدة مثل مفهوم التقويم المتعدد أو التقويم البديل ومفهوم معايير الجودة والاعتماد الأكاديمي، والتعليم عن بعد، والتعليم المفتوح، وازداد التوجه نحو تمهين التعليم لتحقيق التميز لدى الخريج الجامعي الذي يسمح له بمواجهة التحديات التي يفرضها القرن الواحد والعشرون. تطلب ذلك عملياً الانتقال من براديغم الفعل التلقيني في العملية التربوية بإتجاه براديغم جديد يقوم على الفعل لإابداعي والتعلم المستمر.  

وقد استدعى هذا الإصلاح إعادة النظر شاملة في عملية التقويم التقليدية التي كانت تكتفي باختبارات الورقة والقلم، واسترجاع المعلومات والتذكر، فضلاً عن اختبارات إجابات الصواب والخطأ التي لا تقيس إلا المعارف والمستويات الدنيا من التفكير، لتشمل كل مرافق المؤسسة التعليمية بمدخلاتها ومخرجاتها، شاملة بذلك الفاعل التربوي والأداء التدريسي لعضو هيئة التدريس، والمنهاج، والمواد التعليمية، والمناخ التعليمي، والنشاطات الطلابية، والخدمات الطلابية، والمرافق والتجهيزات، والمختبرات، والمكتبة، والتنظيم داخل المؤسسة والإدارة وغيرها، والذي لا ينفصل عن قياس فعالية ومحصلات العملية التربوية برمتها لجهة ربط التقويم بالمخرجات والنواتج وبالواقع من خلال قياس مدى اكتساب الطالب للكفايات والمهارات اللازمة لأداء مهام فعلية في الحياة المهنية.

   يعرض الكتاب الأطر النظرية التي واكبت إنتاج المعرفة العلمية الحديثة فيذهب مع روبرت ميرتون في تحليله ل “روح العلم” إلى تحديد أربع منظومات والتي هي بنظره من الضرورات الإلزامية وتتمثل ب العمومية أولاً وفيها يتم ضمان تقويم المعرفة الجديدة وفق المعايير الموضوعية واللاشخصية، والشيوع ثانياً الذي يتيح للعلم أن يتقدم كمشروع تعاوني، ذلك أن المعرفة هي ملك الجميع، وحقوق الملكية التي يتمتع بها العالم هي لأغراض الاعتراف واحترام العمل الجيد، أما الحيادية  ثالثاً فهي ضمان للجودة والنزاهة والإنجاز، لأنها تفرض على العلماء أبعاد أحكامهم المسبقة، كما مصالحهم وحاجاتهم وقيمهم ومواقفهم، كي تخرج أعمالهم بعيدة عن الغش والتزوير. يتحدث رابعاً وأخيراً عن الشك المنظم الذي يسقط القداسة عن العالم وظواهره، فجميع الأشياء في العلم، سواء أكانت مادية أم غير مادية، خاضعة للدراسة الموضوعية.

ومع كارل بوبر في كتابه “منطق الاكتشاف العلمي”  يبرز نهج مختلف للتحقق العلمي من النظريات في إطار مناقشته لنمو المعرفة العلمية، منذ ان صاغ مبدأ إثبات الزيف بدلاً من مبدأ إثبات الصدق أو قابلية التحقق.

إلا أن إطروحة توماس كون تميزت برؤية جديدة للموضوع، فقد إستطاع في قراءته للثورات العلمية أن يقدم قراءة غنية، أثارت ولا تزال نقاشاً واسعاً منذ الربع الاخير من القرن الماضي. فهو في طرحه لمفهوم ” الباراديغم”  أو  “النموذج الإرشادي”، كشف عن قوانين إنتاج العلم كعملية تاريخية ممتدة وكقوة اجتماعية فاعلة .وقد اغناها أنطوني غيدنز في دراسته للكوابح الكامنة والنشطة في الحقل العلمي والتربوي مما اضاف فائدة كبيرة بينت ان المؤسسات التربوية والتعليمية والبحثية، لا يمكنها أن تنفصل عن البنية الاجتماعية في حركتها نحو التشكل وإعادة التشكل، يولد معها بالمحصلة الباراديغم الجديد. وهذا الوعي بدوره لا يتشكل على هذه الصوره كنشاط ذهني منفصل بقدر ما يكون نتاجاً للحركة الجدلية الدينامية المجتمعية.

  اصبح التلازم بين الثورة العلمية وعمليات البحث والتطوير والتنمية والتقنية من جهة، والثورة التربوية والمعرفية من جهة أخرى أكثر ترابطاً في العصر الراهن من أي وقت مضى، لأن الثورة التربوية هي أساس الثورة العلمية أبرز مخرجاتها تتمثل بتطويع التقنيات وتعميمها لتشمل كل مناحي الحياة، ما يحولها إلى قوة تولد معها معرفة جديدة.

في هذا الإطار يرى المؤلف أن الجهاز المفاهيمي القديم لم يعد صالحاً لتحليل حركة الاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم والإعلام،  لذلك يذهب مع أطروحة مانويل كاستلز في “صعود المجتمع الشبكي”  الى أبعد مدى متسائلاً على ضوئها ما هي السبل للنهوض بإنتاج المعرفة في البلدان العربية؟ وما هي الوسائل التي تمكننا من توطين العلم من دون الوقوف عند استيراد بعض تطبيقاته ونتائجه؟ إن الاستقراء التاريخي لتطور العلم في الحضارة العربية وحضارات العالم ينتهي بنا إلى استخلاص أن العلم لم يتأسس ويتطور إلاّ بعد أن أنشئت المؤسسات الخاصة به في أول الأمر. كذلك ليس هناك نشر ممكن للثقافة العلمية من مجتمع إلى مجتمع آخر – بواسطة الترجمة أو نقل العلماء وما إليه – من دون أن تعد البنية الأساسية اللازمة لاحتضان العلم وتوطينه . فأوروبا على سبيل المثال لم تكن لتقدر على الاستفادة من المعارف العلمية، في بداية الثورة الصناعية، لو لم تعمم التربية العلمية وتنشرها من جهة، ولو لم تنشىء البيئات المؤسساتية الحاضنة لها من جهة أخرى.

 وتحت عنوان ” رؤى مستقبلية  ماهي فرصتنا؟ ” يطرح المؤلف معالم استراتيجية تربوية عربية تتجاوز المفهوم الوظيفي للتربية الذي يساهم في  تكريس التباين الطبقي والاجتماعي والثقافي، والذي لم يعد معه التعليم وسيلة مضمونة  للتحرر من الفقر ولا وسيلة آمنة  للترقي الاجتماعي،  بقدر ما أصبح أداة لتقنين عدم المساواة والمحافظة على الفروق الاجتماعية والطبقية والثقافية الموجود بل وإعادة إنتاج شروط استمرارها.

    يرفض المؤلف القول بأن التعليم أداة موضوعية وحيادية لتصنيف الناس وانتقائهم حسب مهاراتهم المعرفية، اذ يعتبره قول يقلب الحقائق ويترتب عليه نتيجة إيديولوجية مؤداها أن نجاح الفرد في المجتمع أو فشله مرهون بنجاحه أو فشله في المدرسة. وذلك القول ينطوي على إقناع زائف للمواطن بأن شكل المجتمع وبنية النظام الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه بريئة تماما من أي فشل يتعرض له، فالفشل إنما سيكون فشله هو نفسه في اقتناص الفرصة المتكافئة التي توفرت له في المدرسة.

   يعتبر المؤلف في أهم خلاصاتة أِن النتائج المغلوطة التي سوف تترتب على مثل هذا المنهج تذهب الى اعتبار أن مشكلة الفقر التي تعاني منها الطبقات الدنيا في المجتمع هي مشكلة فقر في امتلاك المعرفة وليست مشكلة استغلال وتهميش اقتصادي وتفاوت بنيوي تعاني منه هذه الطبقات. وبالمثل فإن مشكلة التخلف في الدول الفقيرة ستصبح مشكلة تربوية تعالج عن طريق الإصلاح التربوي وبالتالي يتم اخفاء حقيقة التخلف وأسبابه في دول العالم الثالث والذي هو نتيجة نهب استعماري تاريخي (ظاهر ومستتر) وتبعية اقتصادية وسياسية مستمرة ناتجة عن هيمنة النظام الدولي على مقدرات الشعوب وثرواتها.

   في المحصلة إن المساواة المفترضة التي روجت لها المدرسة التربوية المعولمة من خلال نظريتي التحديث ورأس المال البشري والوعود الكبيرة التي بشرت بها، أفضت إلى نتائج معاكسة تأكدت في فشل النظام التعليمي في تأدية دوره في الحراك الاجتماعي أو تحقيق النقلة الاجتماعية للأفراد الملتحقين به، بل أدت إلى مزيد من التمايز الاجتماعي والطبقي والثقافي ساعد على اتساع الفجوة  بين الفقراء والأغنياء إلى جانب قيامه بترسيخ الهيمنة وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية السائدة في مجتمعاتنا التقليدية والمحافظة عليها.

  واذ كان  تطبيق الديمقراطية وتكافؤ الفرص في نظامنا التربوي والتعليمي شرطاً ضرورياً للنهوض، فانه في الواقع يواجه صعوبات كبرى تبدأ بغياب حقوق الإنسان، وغياب المواطنة الحقيقية، ولا تنتهي بإقصاء الكفاءات العاملة. وخلاصة القول: يتبين لنا، من هذا كله، أن التربية ترتبط ارتباطا جدليا بالديمقراطية. فلا يمكن الحديث عن تربية حقيقية إلا في مجتمع ديمقراطي، يؤمن بحقوق الإنسان وحرياته الخاصة والعامة.

  يتصف هذا العمل بغزارة افكاره وسجالاته المعمقة والمراجع والمصادر العلمية الحديثة الأجنبية والعربية التي يستند عليها، فضلاً عن التقارير العلمية والإحصائية الصادرة عن المؤسسات الدولية والعربية الموثوقة في تحليله لسوسولوجيا البحث والتطوير في العالم العربي، على الرغم من ان بعض مباحثه جاءت مكثفة بصورة قد تعيق القارىء العادي، كما ان المباحث المخصصة لتحليل مسارات التربية في عالمنا العربي لم تلحظ بما يكفي التعليم العالي والطفرة المرضية التي يشهدها وحالة الانفصام بين التعليم الخاص والعام التي يعانيها، الا انها تناولتها بمنهجية صارمة ومعمقة .  

   أهمية هذا الكتاب تتمثل بكونه يقدم مداخل نظرية أساسية في سوسيولوجيا التربية، إذ لم يعد بمقدور أي مقاربة جادة الاستغناء عن الأطر والمداخل النظرية والتحليلية والانكباب المباشر على المبحث الحقلي والميداني مفصولاً ومعزولاً عن رؤية منهجية ونظرية تسهم في تعميق التحليل السوسيولوجي وإغنائه بكل أبعاده. لذلك فهو يشكل إضافة نوعية إلى المكتبة العربية ويمثل إنتاجا فكريا يعبر عن إرهاصات فكر نظري متجدد يسعى إلى تسجيل حضوره الإبداعي والمتقدم في عصر العولمة والحداثة والتقانة المتقدمة.

 ( نشرت في مجلة منارات ثقافية_ مجلة اكاديمية تعنى بالعلوم الإنسانية والاجتماعية_ الكتاب الخامس/ تشرين الثاني/نوفمبر 2018)

 

  • استاذ علم اجتماع التربية ومدير معهد العلوم الاجتماعية ( الفرع الثالث ) في الجامعة اللبنانية . abdulhakimfouad1957@gmail.com

تفكيك التعصب وإمكانية تذويبه بقلم الدكتور عبد الغني عماد

تفكيك التعصب وإمكانية تذويبه…بقلم الدكتور عبد الغني عماد

لطالما كان التعصب والتطرف والعنف ظاهرة ملازمة لكل المجتمعات عموماً، يحتل موقعاً هامشياً في أغلب الأحيان، لكنه يتقدم ويتضخم ليكتسح المشهد في ظروف معيّنة. إنه ظاهرة كامنة لا تستيقظ إلاّ تحت وطأة ضغوط وعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، قد تأخذ شكل إنفجارات لكنها لا تلبث أن تعود إلى الكمون، وإلى احتلال موقعها الهامشي بانتهاء الضغوط التي تسببت بإيقاظها أساساً، متى وكيف ولماذا يحدث التعصب؟ متى وكيف ولماذا يبدأ بالانزياح والضمور؟ هذه الأسئلة وغيرها تستحق اليوم إعادة بحث وتفكير لكونها أصبحت موضوعاً عالمياً من جهة ولاتصالها بثقافة التسامح والاعتراف بالآخر التي هي جوهر ثقافة العصر.

لا تخلو بقعة في العالم من مظاهر التعصب والتطرف الديني أو العرقي أو السياسي. وإذا كان بعض الكتاب يركز على ربط فكرة التعصب والتطرف بالإسلام واعتباره ظاهرة ملازمة له كدين، فإن هذه الرؤية فيها الكثير من التحيز والعنصرية التي تتغافل عن حقيقة التعصب والتطرف الذي هو حالة ظرفية في تاريخ الشعوب والأمم، وأن تاريخ الشعوب والأمم كلها في هذا الكوكب شهد موجات من العنصرية والتطرف راح ضحيتها ملايين البشر، ولا تزال الحروب الصليبية، وآثار المرحلة الاستعمارية الكولونيالية، والمشروع الصهيوني ماثلة بالأذهان، بل حاضرة على الأرض تمثل أقصى حالات التعصب والقهر وإلغاء الآخر التي عرفها البشر، فهي بهذا تمثل التعصب والتطرف بشكله الحاد والنموذجي.

والواقع أنه منذ أن أصبح للإنسان تاريخ، ومشكلة الجماعات الأخرى كانت موضوعاً يستقطب اهتمامه، فالإنسان متماهياً في جماعة، يقوم بتصنيف سلوك “الآخر” ويعمم عليه أحكاماً ومواصفات تختزل هذا “الآخر” وتنمّطه فيما يشبه القوالب الجاهزة، عملية التنميط والإسقاط هذه، كنوع من النشاط التصنيفي يمارسها مختلف الناس بدرجة أو بأخرى، وهم عندما يمارسون ذلك لا يختصون في الحقيقة جماعة دون أخرى، بل هو نشاط يشمل مختلف الجماعات والأفراد أيضاً.

هذا النوع من النشاط يصبح أكثر ديناميكية، عندما يقع التنافس ويدّب الصراع، حينها يتحوّل “الآخر” إلى عدو وتتم أبلسته، وتلصق به كل أنواع السلوك الشرير وصوره، مقابل الخير الذي تحمله “الأنا”. هذا النوع من النشاط يمكن أن يكون فطرياً وذهنياً ويمارس كآلية دفاع ذاتية، لكنه يصبح مدمراً وقاتلاً حين يتم تنظيمه ومأسسته وتأطيره في استراتيجيات ثابتة للجماعة.

   لماذا تلجأ الشعوب إلى تنميط وتصنيف “الآخر”؟ لا شك أن هذا النوع من النشاط الذهني له وظيفة توافقية وتكيفية، فهو يختزل الوقت والجهد لأنه يقدم للفرد والمجتمعات أطراً عامة ومرجعيات ذهنية جاهزة للتعامل مع الآخرين والتنبؤ بسلوكهم وردود أفعالهم. لقد كوّن البشر أحكاماً وانطباعات عن الجماعات والثقافات الأخرى وقاموا بتنميطها ونمذجتها قبل أن يبدأ العلماء بهذا النوع من النشاط بشكل منهجي في ما عرف بعد ذلك بدراسات “الشخصية القومية” والاتنوسيكولوجيا والانتربولوجيا الثقافية وغيرها. في هذا السياق يمكن أن نفهم المعنى السوسيولوجي للتطرف والتعصب في سياقه ووظيفته داخل بنية الاجتماع الإنساني وآليات اشتغاله في دينامية الجماعة.

في هذا السياق ينشأ التعصب، وهو ظاهرة لا ينفرد بها شعب دون سواه، ولا طائفة من البشر دون غيرها، ولا أتباع دين أو معتقد سياسي محدد دون غيره. وجد التعصب والتطرف كظاهرة في الواقع عند كل الشعوب ومورس بأشكال مختلفة من قبل أفراد وجماعات على اختلاف أجناسها.

يكشف التعصب خضوع الفرد لسلطة تفسيرات شائعة وسهلة، مع ميل خفيّ إلى نبذ “الآخر” ورؤية العالم في إطار جامد من الأبيض إلى الأسود مع قابلية نفسية لإستخدام العنف في التعامل معه.

فالتعصب حالة خاصة من التصلب الفكري أو الجمود العقائدي والأساس فيه يرتكز على عدة عمليات ذهنية ونفسية مترابطة، حيث يقوم المتعصب بممارستها دون إدراك ومنها:

  • الحكم المسبق Pre-judging دون التحقق في أسباب هذا الحكم ومبرراته ودواعيه.
  • التعميم Generalization الذي يشمل الجماعات الأخرى منطلقاً في الغالب من سوء الحكم.
  • الإسقاط Projection ومن خلالها يعزو فيها الفرد دوافعه وأفكاره المشحونة بالخوف إلى الغير تهرباً من الاعتراف بها أو تخفيضاً لما يشعر به من الإدانة الذاتية. ويعد الإسقاط من أساليب التبرير والدفاع عن الذات.
  • التنميط Stereotype وهو في الغالب مكتسب وشائع في بعض الأوساط ومن خلاله يتم تصنيف للآخرين إعتماداً على جزء من الحقيقة لإبراز وتضخيم التشابه أو الإختلاف بين الفئات أو الجماعات الاجتماعية استناداً إلى سمات أو مواصفات محددة.

مالذي يؤدي الى تشكيل التعصب وبنائه ؟

في الواقع تسهم عدة عناصر في تشكيل مشاعر التعصب وتحوله بالتالي إلى موقف التطرف ومنها: التنافس، الأفكار الدينية، الخوف من الغرباء، التشدد القومي، وقد ينشأ التعصب عندما تخشى مجموعة ما أن يحرمها تنافس مجموعة أخرى من الهيبة والمزايا والقوة والسياسة أو الفرص الاقتصادية، وهو يؤدي على المستوى الفردي والجماعي إلى توليد سلوكيات تتصف بالرعونة والتطرف والبعد عن العقل والاستهانة بالآخرين ومعتقداتهم.

بعض التعريفات التي تناولت التعصب تركز على عاملين في غاية الأهمية:

العامل الأول: أنها اعتبرته موجهاً تجاه جماعات من الناس أو تجاه أفراد، وذلك بسبب عضويتهم في جماعة خاصة( طائفة، مذهب، اثنية قومية، جماعة عقائدية…)

والعامل الثاني: هو التركيز على الجانب السلبي ( ضد الآخر) لكن التعصب قد يأخذ المنحى الإيجابي في صورته التطبيقية تجاه الجماعة المرجعية. أنه يعد الشخص مسبقاً بما يجعله أكثر ميلاً للتفكير والإدراك والإحساس والتصرف بطرق غير موضوعية (محابية – منحازة – عدوانية..) نحو جماعة معينة أو نحو أعضائها.

إذن هو حُكم، أو رأي مسبق دون تقديم تبرير مناسب، إنه الحكم المعمم المسبق تجاه أفراد أو تجاه جنس-عرق، أو دين أو جماعة دينية أو تجاه أي دور اجتماعي آخر، إنه في الغالب يكون حكماً سلبياً غير عادل، أو حكماً خاطئاً تجاه جماعة معينة، وهو يتخذ شكل اتجاه يبدأ بكونه استعداد للاستجابة بالتأييد (المحاباة)، أو ( الكراهية ) بطريقة متسقة تجاه أفراد أو جماعات أو أشياء أو أفكار، لذلك فإن الاتجاه التعصبي عادة: يشير إلى موضوع (معرفي). ويشتمل على معتقدات منمطة ويميل إلى أن يكون أكثر من شيء عابر أو وقتي. ويشير في الغالب على استعداد للتصرف بطريقة غير موضوعية تجاه موضوع معين.

ما الذي يدفع جماعات أو أفراداً إلى أن يصبحوا متعصبين ويعاملوا الآخرين على أساس سلوك تمييزي عنصري؟

ثمة عوامل موضوعية عديدة تساهم في خلق ظروف اجتماعية ونفسية مناسبة تعمل على انتشار التعصب في بعض المجتمعات دون الأخرى منها: أن التعصب ينشأ ويزداد كلما ارتفعت حدة المنافسة بين مكوّنات المجتمع الأساسية، فوجود جماعات تنتمي إلى أعراق مختلفة، أو أديان مختلفة، أو ثقافات مختلفة يعتبر أرضاً خصبة لنمو التعصب. كذلك يلعب الجهل وضعف الإتصال بين الجماعات المختلفة في المجتمع الواحد دوراً في ازدياد التعصب، وقد أثبتت العديد من الدراسات أنه كلما زاد التواصل والتعارف قلً التعصب. وتعتبر المنافسة للحصول على المراكز وفرص العمل وخاصة في المجتمعات التي تغيب فيها أنظمة عادلة للكفاءة من أسباب زيادة التعصب.

ليست فقط العوامل السابقة هي المسؤولة عن تقوية التعصب وتعزيزه؛ بل هناك عوامل أخرى لا نستطيع إغفال دورها أو تجاهلها.. منها مثلاً العوامل الثقافية مثل وسائل الإعلام المختلفة (صحافة، إذاعة، وتلفزة) وأساليب التنشئة الاجتماعة والمناهج التربوية كلها قد تساعد في تشكيل التعصب عند الأطفال والمراهقين على حد سواء.

   إذا كانت كل هذه العوامل مسؤولة عن تكون ظاهرة التعصب، فهل يمكن القضاء عليها؟ أم أن التعصب ظاهرة ملازمة للاجتماع الإنساني؟ هل يمكن في الواقع الحد من نموه وتفاقم أخطاره؟ ما هي الخبرة العالمية في مواجهة هذه الظاهرة ؟ وكيف نواجه التعصب في عالمنا العربي؟

هناك إجابة تقليدية في العالم العربي تتمثل في استخدام الوسائل الأمنية والقمعية والسياسية خاصة عندما يتحول التعصب الى تطرف وسلوكيات عنيفة، وهي وسائل ثبت عقمها. فكل الوسائل الأمنية والسياسية يمكن أن تكون فاعلة على المدى القصير، إلا أنها على المدى الطويل لا تنجح في استئصال العلًة الأساسية المنتجة لهذه الظاهرة وخاصة المتمثلة بالتعصب الديني والتي عادة ما تكون متصلة بجذور ثقافية من خلال تأويلات مغالية للنصوص، وبجذور اجتماعية ناتجة عن ارتفاع معدلات البطالة والأمية وفشل مشاريع التنمية وغيرها من المسائل المتعلقة بغياب الحريات والعدالة والمساواة بين المواطنين.

وفي تقديري أن هذه الحلول لا تعالج اختراق التعصب لنظام التربية والتعليم بكل مؤسساته. وهو اختراق يساعده أن التعليم في بلادنا لا يزال في غالبه يقوم على التلقين وليس على الفهم والمساءلة والحوار بين الأفكار. أي أنه يقوم بصياغة العقل الاتباعي لا العقل النقدي، وهذا ما تقوم بترسيخه بصورة مباشرة بعض دولنا، لأن العقل الاتباعي يتكيف مع مفاهيم الطاعة والانقياد، أما العقل النقدي فمتمرد ومتسائل بطبعه.

لا شكّ أن المؤسسة التربوية العربية قد التقطت بشكل أو بآخر جرثومة “التعصّب” وآفة “التطرّف” الديني، وهذا معناه أن المؤسسة التربوية بدلاً من أن تساعد المجتمع العربي على المواجهة العقلانية فإنها أضافت إلى مشكلاته تحديات جديدة.

فالتعصّب ينتقل من جيل إلى جيل، ومن الكبار إلى الصغار، إنه أشبه ببناء أو هرم يتم تشييده حجراً فوق حجر، إذ يتعلّم كثير من الأبناء التعصّب من آبائهم وأساتذتهم. وتجد قيم التعصّب تعزيزاً لها في إطار القوانين والمؤسسات والعادات، فالتعصّب يتأسس في الغالب من تصورات مسبقة تأخذ طابع النمذجة حيث يتمّ تعميمها على كل أفراد الجماعة موضوع التصنيف، يكتسبها الطفل خلال تنشئته المبكرة، ومعها يصبح الآخر متّصفاً بالغدر والخيانة والكفر والمذلّة الخسّة واللعنة. في هذا المجال الكراهية تصبح احد ابرز منتجات التطرف والتعصب.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: كيف يمكن للمؤسسة التربوية العربية أن تعززّ قيم التسامح في مواجهة التعصّب والتطرف في مجتمعات لم تتعزز فيها تقاليد الديمقراطية بعد، وخاصة تقاليد الاعتراف بالرأي الآخر والتمثيل الشعبي ومشاركة المجتمع المدني، حيث تغيب عملياً مبادئ حقوق الإنسان، بل والأطر التنظيمية الناظمة للتعددية السياسية في المجتمعات العربية.

المشكلة الأخرى تتمثل في ازدواجية نظم التعليم، فضلاً عن المحتوى والمناهج، بحيث نجد تعليماً مدنياً في جانب وتعليماً دينياً خالصاً في جانب آخر، لا تشرف عليه المؤسسات الرسمية، بل بدأ يتخصص شيئاً فشيئاً، بحيث أصبح للمذاهب والجماعات والأحزاب الدينية مدارسها الخاصة، ولنا أن نتصور في ظلها أي نوع من التعليم والثقافة الدينية يجري ترويجها.

يحتاج التطرّف والتعصّب إلى بيئة حاضنة يعيش فيها ويعتاش منها، وقد كان الحرمان والفقر وفشل مشاريع التنمية من أبرز العناصر والعوامل المساعدة على نمو التعصّب والتطرّف. وهذا يعني أن محاربة هذه الظاهرة ومكافحتها ليس عملاً أمنياً بقدر ما يجب أن يكون فعلاً تنموياً مستمراً على المستوى البشري والعمراني والثقافي والتربوي.

فالتطرّف والتعصّب ظاهرتان مرضيتان وأفضل علاج لهما هو الوقاية الصحيحة. والوقاية الصحيحة يجب أن تركز على التعامل العقلاني الذي يستهدف تصحيح الإختلالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وإشاعة الفكر النقدي والمشاركة والشورى والديمقراطية في كافة مجالات الحياة وبدءاً بالمؤسسة التربوية.

فالتعصب بوصفه ظاهرة بشرية واجتماعية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقات بين الجماعات والأفراد، يمكن أن يعالج بطرق وأساليب متعددة مثل الاتصال المباشر بين الجماعات، والبرامج التربوية والتنموية قبل أن يتفاقم سلوكياً ويتحول إلى العنف الذي أصبح آفة كبرى في عالمنا.   

نشرت في مجلة العربي( العدد719 – اكتوبر 2018)

 

قراءة في كتاب د. لويس صليبا:لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي؟ بقلم الدكتور عبد الغني عماد

 بقلم الدكتور عبد الغني عماد

بمناسبة عيد الاستقلال يعود بنا الصديق والباحث البروفيسور لويس صليبا في كتابه حول اشكالية اعلان لبنان الكبير إلى مناقشة الأسس التي قام عليها لبناننا، طارحاً كعادته الأسئلة الحرجة محاولاً ولوج بعض من المسكوت عنه في تاريخنا الاشكالي. هل ثمة غلطة ارتكبت حين ركب هذا الكيان لا تزال تجرجر حروباً وأزمات؟ هل كنا نفبرك وطناً ثم نبحث له عن تاريخ وفلسفة وقومية؟ أي لبنان هذا الذي أراده مؤسسوه وبأي حدود وموزاييك وطوائف وسكان وهواجس.. تلك هي القصة والمأساة، وحكاية الوطن التي نجتمع برعاية نادي بجة الثقافي والرياضي لمناقشتها.. فألف شكر لكم جميعاً.

يتألف هذا الكتاب من أربعة أبواب، في الأول منها يتناول المرحلة الانتقالية من المتصرفية إلى لبنان الكبير، وفيها يعرض لتبلور مشروعين لهذا اللبنان مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تبلور الأول في كتابات ومواقف بطريرك الروم الارثوذكس غريغوريوس حداد المؤيد للحكومة العربية الفيصلية في دمشق والرافض لأي تقسيم والثاني كان على النقيض منه مؤيداً لدولة لبنان الكبير ومعارضاً للمشروع الفيصلي العربي كما عبر عنه البطريرك الياس الحويك.

يخصص المؤلف الباب الثاني لشخصيات لبنانية وفرنسية بارزة عارضت هذا الخيار (لبنان الكبير) وكان بين هؤلاء من يدعو إلى لبنان الصغير، أو إلى تعديل مشروع لبنان الكبير يمثله سليمان البستاني وروبير دوكيه (المعاون الأساسي لغورو ونائبه)، في المقابل كان هناك تيار أيضاً يدعو لكي يكون لبنان جزءاً من فيدرالية سورية يمثله جبران خليل جبران وكاترو وميلران وغيره من الجانب الفرنسي.

الباب الثالث يبحث في اعلان لبنان الكبير وردود الفعل عليه ويركز في احد فصوله على الأوساط الارثوذكسية والخلفية الاقتصادية والديموغرافية لموقفها الرافض له متوقفاً عند بعض الشخصيات ومنها نجيب سرسق (أول من أطلق شعار لبنان خطأ تاريخي) قبل أن يعود ليكيف نفسه مع هذا الخطأ، وهو الشعار الذي ورثه الاسرائيليون كما يشير الباحث إلى ذلك بنظرة ثاقبة.

الباب الرابع خصصه المؤلف ليرسم صورة هذا اللبنان الكبير وكيف كان يصارع من أجل البقاء من جهة ويبحث عن هوية في نفس الوقت.

نرى باحثنا في هذا الباب يعود إلى قصة علاقة البطريرك حداد بالأمير فيصل وعلاقة البطريرك الحويك بالجنرال غورو ليستخرج منها مزيداً من الدلالات، فيتوقف مثلاً عند مشاريع ضمّ وادي النصارى إلى لبنان، ويفند هذه الروايات التي تطلق برأيه للقول بأن البطريرك الحويك فضل السنة تارة أو الشيعة تارة أخرى على الروم في وادي النصارى؟ يؤكد باحثنا أن ما من وثيقة تشير وإن تلميحاً إلى أي مشروع من هذا النوع، فلا عرض على البطريرك ضم الوادي ولا هو فكر بذلك ولا الفرنسيون كانوا في هذا الوارد والقصة كلها مجرد أقاويل واشاعات!! وبتقديري هذه الخلاصة تحتاج إلى مزيد من التدقيق التاريخي لأنها غير محسومة؟!

كذلك يناقش باحثنا في هذا الكتاب ما يسميه اسطورة السعي لبناء وطن متعدد الانتماءات والسائدة في كثير من الأوساط المارونية. إذ يردد بعضهم ان البطريرك الحويك اختار عن سابق تصور وتصميم أن يضم لبنان خليطاً من الطوائف كي لا يتحول إلى وطن مسيحي الطابع كي لا ينبذ في محيطه أو يتحول كياناً على شاكلة اسرائيل اليهودية التي لم تكن قد ولدت بعد؟

وواقع الحال غير ذلك فوثائق ذلك الزمن بين يدي باحثنا تكشف أنه سعى إلى كسب الجغرافيا وإن أدى ذلك إلى اختلال في الديموغرافيا، فالوطن في وجدانه ومفهومه كان جبلاً وسهلاً ومرافئ وكحد أدنى لكي يكون قابلاً للعيش والاستمرار وفي الذاكرة المجاعة في الحرب العالمية الأولى وأهوالها حاضرة دائماً.

تكشف وثائق الحويك ورسائله إلى المسؤولين الفرنسيين أنه حتى 1926 وفي عز أيام الثورة السورية الكبرى وفي العام الذي وضع فيه الدستور اللبناني كان البطريرك يتحدث في رسالة إلى وزير الخارجية الفرنسي اريشيد بريان Briand عن لبنان المسيحي مقابل سوريا المسلمة، وعن لبنان الملجأ لكل مسيحيي الشرق، رافضاً التنازل عن أي جزء من لبنان الكبير لمصلحة سوريا المسلمة، داعياً بوضوح إلى تبادل سكاني اسلامي – مسيحي بين لبنان وسوريا.

هذه الوثيقة حسب باحثنا تكذب كل الادعاءات والمزاعم من مارونية وغيرها، والقائلة أن البطريرك حويك سعى إلى وطن متعدد الانتماءات الدينية، بل انها تبين بوضوح أنه عمل مع فريقه على ادارة لبنان الكبير بذهنية لبنان الصغير، مما لا يعكس إدراكاً حقيقياً لعمق التغييرات التي طالت هوية الكيان الجديد والتي نتجت عن الانتقال من لبنان المتصرفية إلى لبنان الكبير، وهي التي حذره منها سليمان البستاني السياسي المسيحي العثماني المخضرم وروبير دوكيه الدبلوماسي الفرنسي.

في الفصل الأخير ينقل وللمرة الأولى وثيقة قدمها اميل إده في ايلول 1932. ورغم ان هذه الوثيقة لا تحمل توقيع اميل إده إلا أن المؤشرات التي يستحضرها باحثنا تجعله يؤكد، وبشكل موضوعي ومنطقي أن صاحبها هو اميل اده، ويقترح فيها التخلي عن طرابلس شمالاً وجبل عامل جنوباً للتخلص من أكثريتين والعودة بلبنان إلى أكثرية مسيحية طاغية. الوثيقة مقدمة إلى الخارجية الفرنسية وتتضمن معطيات تدل بشكل واضح على أن هاجس الديموغرافيا والفوبيا من التوازن السكاني بين المسلمين والمسيحيين بدأ يصبح أقوى من جاذبية الجغرافيا التي كانت وراء مشروع لبنان الكبير.

يقارن الباحث في الخاتمة بين طرحين ومنطقين: بتبادل سكاني اقترحه البطريرك الحويك وتخل جغرافي إرتآه إده. أيها كان الأقرب إلى الواقع أو الصواب؟

هل جاء اقتراح اده صحوة متأخرة بعد أن سبق السيف العزل؟ وهل كان طرح البطريرك الحويك اقراراً ضمنياً بخلل ما بدأ يتسرب إلى وعيه في استراتيجيته وسعيه الدؤوب إلى لبنان الكبير؟

ثمة بعض الملاحظات الإستكمالية لا بد منها لهذه القراءة  النقدية المتميزة والشجاعة التي قدمها الدكتور صليبا والتي نجح فيها بتحقيق قدر عال من الموضوعية والحيادية في معالجة وتحليل مواقف القيادات المارونية والاورثوذكسية ، مما جعل الكتاب مركزاً في اعلان لبنان الكبير على تداعياته ضمن الملعب المسيحي دون أن يتوقف بما يكفي من التحليل عند باقي الأبعاد الوطنية التي تتعلق بباقي مكونات الإجتماع اللبناني والتي سبب لها هذا الإعلان غير المرفق بأية ضمانات قلق وجودي وأثار عندها الكثير من الهواجس والمتاعب، وبطبيعة الحال أتفهم حرص الباحث على عدم الإستفاضة، لكن ذلك بالنتيجة قدم صورة لهذا الحدث الكبير من منظور واحد يختص بتداعياته المسيحية. لذلك لا بد من تسجيل بعض الملاحظات:

أولاً:   في الواقع خلق إعلان “دولة لبنان الكبير” وضعاً جديداً في المعادلة السكانية، حيث لم يسبق للموارنة والمسلمين (السنة والشيعة) التفاعل سياسياً واجتماعياً كما كان الحال مع الدروز، إذ أصبح الواقع الجيوسياسي على الشكل التالي: مجموعتان طائفيتان كبيرتان تختلفان في النظرة الإيديولوجية والاستراتيجية لهذا الكيان الوليد المدعو “لبنان الكبير”. وهو خلاف وصل إلى حدوده القصوى مع سياسة الانتداب الفرنسي الذي حدد هدفين غير قابلين للتوافق، أولهما محاولة الحفاظ على الوحدة السياسية والإدارية للبنان، والثاني ألا يصل ذلك إلى حد تمكين الطوائف من القدرة على معارضة الانتداب والاستقلال عنه. وكان هناك هدف ثالث يشترك به مع الانكليز ضمناً وهو استغلال الوقائع الطائفية والأمنية وقضايا الأقليات لمواجهة صعود تيار الوحدة العربية آنذاك  ما يجعله- أي الإنتداب الفرنسي- في حالة انحياز واضح لصالح الفريق المسيحي فيه.

ثانياً : صحيح أن أعلان دولة لبنان الكبير غيًر في المعطيات الجيوسياسية والاستراتيجية والسكانية لكنه لم يكن معزولاً سياقاته الإقليمية ، وصحيح أيضاً أنه أوجد نوعاً من الإنقسامات والإصطفافات الطائفية وأطلق الهواجس والمخاوف عند الجميع، لكن الجوهري: هل بقي الوضع على حاله أم شهدنا تطوراً في المواقف الرافضة للدولة الوليدة عند المسلمين والمسيحيين؟؟؟ .  جواباً نقول : في الواقع لم تكن ذهنية الدولة الوطنية قد تشكلت بعد في المنطقة وهذه نقطة هامة يجب أن لا تسقط من حسابنا وأغلب الإعتراضات على لبنان الكبير جاءت من ذهنية ما قبل تشكل الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة. وهي اعتراضات لم تكن ضد لبنان حصراً، بل كانت ضد المشروع التقسيمي الأجنبي الهادف الى ضرب المشروع العربي وضد التقسيم الذي تعرضت له المنطقة على يد الحلفاء المنتصرين حينها. انه اعتراض له حيثياته وسياقاته، عبرت عنه حينها قوى ومصالح وايديولوجيات، ولا يمكن بحال من الاحوال اعتبارها ازلية وثابتة، ومثلما لا يمكن اعتبار التمسك بالإنتداب الفرنسي واعتباره ضمانة مبدأ ثابت وأزلي إذ أن له أيضاً حيثياته وسياقاته، عبرت عنها أيضاً قوى ومصالح وايديولوجيات،  وبالتالي لا يمكن التشكيك بوطنية أي من الطرفين بسببها .

   ثالثاً :  هذا الكتاب يؤكد بأن تاريخ لبنان الحديث كدولة ووطن بحدوده المعترف بها اليوم وحتى بعد اعلان لبنان الكبير لم يكن متبلوراً ونهائياً من الناحية العملية، فقد كان النقاش لا يزال حامي الوطيس عن أي لبنان نريد داخل كل طائفة، ولا فضل لطائفة على اخرى بهذا الأمر، ولا يمكن الإدعاء أن المسلمين أو المسيحيين كانوا على رأي واحد من مشروع لبنان الكبير، لذا من الخطأ الوقوع في آفة التعميمات المتسرعة، إذ يجب الإقرار بنظرنا أن الوعي بالوطن كدولة وسيادة وحدود  كما هو اليوم بدأ يتبلور بشكل تدريجي منذ العام1920 عند كل الطوائف وتكرس في العام 1943 مع الميثاق الوطني والاستقلال عند الجميع، وليس في ذلك اي عيب او انتقاص من لبنانية أحد . وبالنسبة  للمسلمين فإن تبلور البعد الوطني اللبناني في وعيهم الاسلامي لم يحدث بشكل مفاجىء أو مفتعل كما أنه ليس موضوع مستجد على الإطلاقً كما يدع البعض، وهناك الكثير من الحقائق التاريخية التي تؤكد ذلك، والتي تحتاج الى شيء من التفصيل في دراسات أخرى..

  رابعا:  في هذا الاطار يجب قراءة ذلك الاختلاف والتباين في النهج السياسي بين بعض الزعامات والبيوتات الاسلامية السياسية في مواقفهم من لبنان الكبير بين مؤيد ومعارض، كآل شرف الدين الشيعة ممثلين بالمرجع السيد عبد الحسين وآل الأمين ممثلين بالسيد محسن الأمين، او بين آل الجسر ممثلين بالشيخ محمد الجسر الذي شغل منصب رئاسة مجلس النواب وكاد يصبح اول رئيس مسلم للجمهورية بما يشبه الاجماع المسيحي الاسلامي حينها، لولا ان قام الانتداب بحل مجلس النواب لقطع الطريق على هكذا خطوة ، وبين آل الكرامي ممثلين بالمفتي عبد الحميد كرامي، الذي كان يخوض معركة لاهوادة فيها ضد الدولة الوليدة وضد الانتداب ويرفض اي تعاون معه، او حتى تلك الرسالة الشهيرة لكاظم الصلح ( الإنفصال والإتصال) والمدعومة من عادل عسيران بعد مؤتمر الساحل عام 1936، والتي تحمل ذلك الوعي الاسلامي المبكر في معنى الوطنية اللبنانية، بل وفي  ” لبننة العروبة ” وإضفاء المعنى اللبناني للعروبة الحضارية المنشودة. وهنا من الواجب القول أنه من السذاجة نعت هذا او ذاك من هؤلاء بالعمالة للانكليز او للفرنسيين على شاكلة بعض التحليلات السطحية، فقد كانت هذه التنوعات في المواقف حينها تعبيرات سياسية تعكس بحق بداية انخراط النخب الاسلامية والمسيحية  في الممارسة السياسية وفي الحياة الوطنية اللبنانية واندراجها في البحث عن جوامع مشتركة على مستوى الوطن مع بقية الطوائف. وهنا يبرز الميثاق الوطني ومعركة الاستقلال كعلامات على هذا النضج، وكمحصلة لمسار تطور الوعي الوطني عند كافة النخب الاسلامية اللبنانية من رياض الصلح الى صائب سلام وعبد الحميد ورشيد كرامي، الى صبري حمادة وعادل عسيران وآل الاسعد والزين والخليل وغيرهم.

لكل ذلك لايمكن القفز فوق حقيقة ان المسلمين ارتضو لبنان وطنا فعليا وحقيقياً، سراً وعلناً ، وطناً نهائياً ، حملته قبل الطائف قوى وشخصيات ونخب، وكرسته بعد ذلك، بشكل لا يقبل التشكيك، نصا في الطائف، ودما في الدفاع عن ربوعه وحدوده في مواجهة العدو، وعن قراره المستقل وسيادته في انتفاضة الاستقلال التي تفجرت اثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري وما تلاها من سلسلة اغتيالات .

خامسا : ينبغي الإعتراف أن منطق السعي إلى الغلبة والهيمنة، الذي جربته الطوائف اللبنانية في حالات انتفاخها كان كارثياً على الجميع،  وفي تجربة “المارونية السياسية” الغابرة، رغم ما توفر لها من عدة فكرية وثقافية وخطاب جمع بين الانفتاح والتعددية والقدرة على الاستيعاب والهيمنة والحريات والتحديث المحدود والدعم الخارجي المفتوح، ما يفيد أنها فشلت في تجديد النظام وقادت البلد إلى الإنهيار والكارثة، رغم ما في هذه التجربة الكثير من العبر والدروس التي تفيد أن عوامل  الهيمنة والتفرد والقوة الآحادية الجانب لأية طائفة في لبنان ليست كافية لحكمه أو حتى السيطرة على قراره، يبدو خطاب الأقليات ومنطقها لا يزال يمارس إغراءه لإنتاج المزيد من الصيغ الطائفية “المتفردة”.  بل والأخطر من ذلك فإن هذا الخطاب المتحصن بشعارات ” الحقوق المسلوبة ” و ” الغبن ” و الاضطهاد ” راح يتنامى ويتعمق مع اطروحات مؤدلجة طائفياً ومذهبياً وممؤسسة حزبياً ومعسكرة ميليشياتياً، لامس خطاب بعضها حدود العنصرية تجاه الآخر في حالات التحريض والحشد العصبوي المكشوف.

العبور الى دولة المواطنة يحتاج إلى شجاعة ومقاربة نقدية جديدة من داخل البنى الطائفية القائمة ومن خارجها، ولم يعد مقبولاً مداراة التضخم الذي يعيشه الخطاب الطائفي في لبنان عموماً، وبأي قناع تستر أو تخفى، حتى ولو لامس المقدس ، فللجميع مقدساتهم، وللجميع حقوقهم، ولا يجب أن تكون لأي طائفة حقوق أو امتيازات على حساب الوطن الذي هو فعل الانتماء الجامع والمشترك بين جميع أبنائه.

في النهاية اشكركم على اتاحة الفرصة لي لكي التقي بكم واتحدث بهذه المناسبة الوطنية مكرراً شكري للإخوة الأصدقاء رئيساً وأعضاء في نادي بجة الثقافي

 

نادي بجة الثقافي – جبيل 21-11-2018

مراجعة لكتاب الهوية والمعرفة والمجتمع والدين لعبدالغني عماد بقلم الدكتورة نورهان دلة

قراءة في كتاب الدكتور عبد الغني عماد: اشكاليات الهوية والمجتمع والدين وتحدياتها الجديدة في عصر العولمة
مراجعة : د. نورهان دلة -استاذة الاعلام والميديا الاتصالية في جامعات سويسرا
الكتاب: الهوية والمعرفة، المجتمع والدين. علم اجتماع المعرفة الاتجاهات الجديدة والمقاربات العربية. دار الطليعة، بيروت . 2017 ( 376 ص)
يتصدى الكتاب لسؤال المعرفة الذي شغل الفلاسفة والمفكرين وهو سؤال أصبح أكثر راهنية الآن، لأنه يشكل مساحة أكثر إتساعاً، تتجاوز حدود الفلسفة لتتصل بقضايا وتساؤلات تطال مجالات إجتماعية متنوعة وحقول بحثية متعددة التخصص. فقد أصبحت “إقتصاديات المعرفة” و “سياسات المعرفة” وغيرها، مصطلحات كثيفة التداول في ما بات يعرف اليوم بـ “مجتمع المعرفة”.
ولماذا يحتاج الانسان إلى المعرفة؟ لسبب بسيط وهو أنه بحاجة ليدرك ويفهم ويفسر ما يجري حوله. فالمعرفة العملية تبدأ مع الانسان بإعتباره فاعل اجتماعي، يحتاج أن يعرف لكي يفهم، ويكون بالتالي لتفاعلاته وممارساته “معنى”، يسمح له بالتوافق مع محيطه. قديماً إعتبرت المعرفة في الفلسفة العربية كنوع من الإدراك للجزئيات، أما “العلم” فكان إدراك بالكليات. حينها إستخدم مفهوم المعرفة في مجال التصورات، في حين أستخدم مفهوم العلم في مجال التصديقات.
ولطالما كانت اشكالية المعرفة الموضوعية هاجساً حقيقياً لدى كل المشتغلين في حقولها، ذلك أن الباحث في العلوم الطبيعية أسس أدواته المنهجية العلمية التي تمكنه من المعرفة الموضوعية بنسبة عالية، إلا أن الباحث في العلوم الاجتماعية، ورغم كل التحصين المنهجي، لا يمكنه القبض على المعرفة الموضوعية إلا بصورة نسبية، لأنه ببساطة جزء من الحقل الذي يقوم بدراسته. إنه طرف في معادلة يتداخل فيها ما هو ذاتي مع ما هو موضوعي في تفسير الوقائع والظواهر. فهو لا يتعامل مع “الأشياء” كما أراد اميل دوركايم، فبعض الظواهر الاجتماعية بدلالاتها الرمزية والثقافية والمعرفية، تتسلل في اللاوعي الجمعي لتنتج أشكالاً من التحيّز المعرفي لا حدود له.
يقدم الكاتب مقاربة حديثة لعلم اجتماع المعرفة، وهو الاستاذ المتخصص في مجالاتها، فقد سبق واصدر كتاباً تحت عنوان : سوسيولوجيا الثقافة، المفاهيم والاشكاليات من الحداثة الى العولمة، وهو الكتاب الذي صدر مزيداً ومنقحاً في طبعته الثالثة عن مركز دراسات الوحدة العربية هذا العام ولاقى رواجاً واهتماماً ملحوظاً بين المثقفين العرب. في هذا الكتاب يتابع المؤلف حفرياته المعرفية السوسيولوجية، وهو لا يكتفي بعرض النظريات ونقدها، اذ يعتبر أن دراسة سوسيولوجيا المعرفة ليست عملية أكاديمية بحتة، بقدر ما هي محاولة موضوعية لمقاربة الحقيقة الاجتماعية لمعارفنا على كافة المستويات، بهدف الوصول إلى تفسيرات تطال أكثر القضايا المثيرة للجدل والتي تواجه الناس في حياتهم وتفاعلاتهم وصراعاتهم وتناقضاتهم.
هذه الدينامية تعني حسب المؤلف أن الانسان بصفته فاعل إجتماعي، هو كائن معرفي وثقافي وبنفس الوقت: يدرك، يعرف، يتفاعل، يفعل. والفعل هو ذروة الافصاح المادي عن الإرادة الانسانية العارفة. ولأن الأمر كذلك لا يمكن إدراك طبيعة المعرفة وديناميتها، دون هذا التلازم الجدلي بين التصور الذهني والفعل العملي. من هنا التمييز بين الثقافة والمعرفة سوسيولوجياً، حيث تحتوي الأولى الثانية، وتنتقل بها إلى حقل الواقع المعاش.
يرى الكاتب أن المعرفة أصبحت سلطة وقوة في عالم اليوم، وهي تتنوع على أشكال، وهي إتسعت لتشمل كل معاني الحياة وحقولها، إنها حولنا في كل مكان، بل إنها فينا، تعيد تشكيل هويتنا، أو على الأقل تسهم بشكل رئيسي في إضفاء المعنى على الأشياء المحيطة بنا. إن هذه المعارف لا تتشكل عبثاً، ولا تتركب خارج الأطر الاجتماعية والسياقات التفاعلية والعلائقية، بل يشهد تطورها على طبيعة النمط البنيوي والمجتمعي الشامل الذي تعمل فيه، وأكثر ما يتجلى ذلك في النظام المعرفي الذي يسود في المجتمع، متوافقاً معه ومتكيفاً في بنيته الظاهرة والكامنة بنفس الوقت.
فالمعرفة تتكوّن سوسيولوجياً حسب الكاتب من الأفكار والمعلومات والبيانات، ومن مجمل البنى الرمزية التي يحملها الانسان أو يمتلكها المجتمع في سياق تاريخي محدد، وهي بالتالي تتشكل كمنظومة دينامية توجه السلوك البشري فردياً ومؤسسياً في مجالات النشاط الانساني كافة، في إنتاج السلع والخدمات، وفي تنظيم العلاقات مع الآخرين، كما تتمثل في كافة أوجه المجتمع وأنشطته وتفاعلاته، فضلاً عن الحياة الخاصة للأفراد. هي تشتمل على مضمون المعارف التي تمتلك عبر التنشئة الاجتماعية والتعليم، كما الدروس المستفادة من خبرات العمل والحياة، متضمنة الحقائق والقصص والصور وموجهات السلوك البشري، موثقة كانت، أم شفاهية أم ضمنية، بما فيها من عادات وتقاليد وأعراف، وتراث وثقافة. ولهذا فإن المعرفة قد تكون ظاهرة وموثقة يمكن تسجيلها وملاحظتها، وقد تكون ضمنية، تعمل كموجهات للعقل والسلوك، ولا يسهل ملاحظتها وتسجيلها. وهذه الأخيرة تشكل في الكثير من البنى المعرفية حيزاً هاماً وفعالاً.
في المحصلة يرى الكاتب أن قضية اكتساب المعرفة سوسيولوجياً، لم تعد مسألة ترف، أو نزوع نحو ترقية فردية أو نخبوية، بقدر ما أصبحت سبيلاً أساسياً للتنمية الانسانية. ما يعني أن ببساطة أنها أصبحت حقاً إنسانياً وجودياً، يزداد أهمية كلما إزداد إرتباط إكتساب المعرفة بالقدرة الانتاجية في المجتمع. ولهذه الأسباب تزداد الحاجة إلى تجاوز التخلف المعرفي وخاصة في المجتمعات النامية التي تعاني من أزمة مركبة في هذا المجال، تتمثل في تخلف منظومة إكتساب المعرفة وإنتاجها، والمعوقات البنيوية التقليدية المعرقلة للتنمية، كغياب الحرية والعدالة، وتفشي الفساد والزبائنية من جهة، والحاجة الملحة لتجاوز هذه المعوقات الداخلية، والتي لا تجد ما يدعمها أو يحفزها على المستوى العالمي المحكوم بآليات العولمة واحتكار مصادر وآليات اكتساب المعرفة من جهة أخرى.
الكتاب الذي يقدمه المؤلف للقارئ العربي يطال في مناقشتة أبرز ما كتب حول علم اجتماع المعرفة حديثاً، ومتابعة تأثره بظاهرة العولمة والتفاعلات الحاصلة والمصاحبة لهذا العلم، بفعل التطور الهائل على صعيد تقنيات الاعلام والاتصال والانفوميديا عموماً، والذي إزدادت أهميته مع مطلع هذا القرن الجديد بما لا يقارن مع ما كانت عليه الحال في القرن الماضي، ما يستوجب إعادة تحليل ظاهرة المعرفة، ودراسة كيفية إشتغال العناصر المعرفية وتشكلها وتفاعلها بعضها مع بعض.
والكتاب في الفصل الأول يطرح اشكالية سوسيولوجيا المعرفة، وأهمية المقاربة التي تقدمها، ويتوقف عند الاطار التاريخي والمنهجي لنشوء هذا العلم، دون أن يهمل الجذور، من خلال البحث والحفر المعرفي العربي في هذا المجال. الفصل الثاني خصصه لتحليل التراث الماركسي الذي مثلّ الجذور الأولى لتطور الاهتمام بهذا المجال المعرفي الجديد، فقد شكلت المقاربة الماركسية حول الايديولوجيا والوعي، والبنية التحتية والبنية الفوقية، محاور أساسية لنقاش لن يغلق بسهولة. أما الفصل الثالث فقد خصصته لما أضافه أميل دوركايم من بصمات واضحة على مستوى علم الاجتماع بشكل عام، وعلى مستوى الأسس الاجتماعية للمعرفة، وبخاصة مقولاته حول الدين والفكر والتصورات الجمعية، وما تركه من أثر على التراث السوسيولوجي الفرنسي والعالمي.
في الفصل الرابع حفريات سوسيولوجية معرفية مع الفيلسوف الألماني ماكس شيلر والذي ينظر إليه بإعتباره الأب الروحي لهذا العلم، وأول من أطلق عبارة “علم إجتماع المعرفة”، ثم مع ماكس فيبر صاحب مقولة الفعل والنموذج المثالي كمفاتيح للفهم والتفسير. أما الفصل الخامس فقد خصصه لمناقشة أفكار كارل مانهايم الذي يعتبر صاحب أول صياغة نظرية رسمية لهذا العلم، لذلك حظيت المقاربة المانهايمية حول “الايديولوجيا والطوبى” بإهتمام لافت وتركت بصماتها الواضحة على الأجيال اللاحقة. أما المدرسة الأميركية فقد خصص لها الباحث الفصل السادس مناقشاً فيه أفكار بيتريم سوروكين وجورج غورفيتش، حيث يتحدث الأول عن دينامية المعرفة وقانون الدمج الثقافي، والثاني في تحليله العميق الذي يقوم على الترابطات الوظيفية والجدلية للمعرفة.
وتحت عنوان المعرفة والثقافة باعتبارها صناعة، يخصص الكاتب الفصل السابع لمناقشة أطروحة مدرسة فرانكفورت، ومقاربة هابرماس عن نقد العقل الأداتي وبارديغم التواصل والتي تمثل أحدث ما طرح في هذا المجال، إلى جانب مقاربات بيار بورديو حول الهابيتوس المعرفي، والتي كشفت الكثير من كواليس التمييز والهيمنة في المجتمعات المعاصرة حيث كانت مدار نقاش موسع في الفصل الثامن من الكتاب.
أما إشكالية الهوية الثقافية التي أصبحت أكثر تداولاً اليوم في الكتابات السوسيولوجية والسياسية، بل وحتى التربوية والنفسية، فقد عرض لها الكاتب في الفصل التاسع حيث ناقش تبلور المداخل النظرية لسوسيولوجيا الهوية بدءاً بالمقولبات والتصنيفات وصولاً الى الاستراتيجيات والسياسات الهوياتية مع تاجفيل وتيرنر والتطور الدينامي للهوية مع ستيوارت هول وجينكينز.
مع الفصل العاشر ينتقل الكاتب الى التوظيف المنهجي والمعرفي لهذه المداخل النظرية في محاولة جريئة لتقديم مقاربة تحليلية نقدية للواقع العربي والاسلامي على مستويين، الاول يغوص في العقل المعرفي العربي وآليات انتاجه للمعرفة من الناحية الابيستمولوجية والمنهجية والثاني يتوجه نحو تحليل التجليات العملية في الممارسة والحياة اليومية مفتتحاً النقاش والتحليل في اشكالية الدين والتدين والاقليات تحت عنوان مثلث القلق واليقين، فيتوقف عند العلاقة بين الثقافة والدين ويحلل أبرز المداخل النظرية في مجال سوسيولوجيا الدين ودور الاساطير والطقوس في انتاج الرابط الاجتماعي، ويتوسع في التحليل السوسيومعرفي لمفهوم الذاكرة الجمعية مع هالبواش وباستيد في محاولة لفهم آليات التدين وتمظهراته متوقفاً عند اشكالية الاقليات والدين وانتاج المخيال الهوياتي والطائفي ودوره في نشوء “الطوائف المتخيلة” التي تتغذى على شبكة من الطقوس والرموز والتقاليد التي يعاد انتاجها في الممارسة الجماعية لمختلف الطوائف وخاصة في مجتمعنا العربي، وصولاً إلى بحث المعرفة والمعنى في الحياة اليومية مع المدرسة الظاهراتية والتفاعلية الرمزية في الفصل الحادي عشر.
أما سوسيولوجيا المعرفة العلمية، وآليات إنتاج العلم وشروطه ومحدداته السوسيولوجية، والنظريات التي قاربت هذا الموضوع وصولاً إلى مفهوم الباراديغم والنموذج الارشادي الذي أصبح اليوم أكثر تداولاً على مستوى التفكير الفلسفي والسوسيولوجي فقد خصص لها الفصل الفصل الثاني عشر الذي يثير اشكالية المعوقات الوضوعية والذاتية والمنهجية التي تعترض تأسيس القيم العقلانية والروح العلمية بشكل عام وفي مجتمعاتنا بشكل خاص، في حين كان محور الفصل الثالث عشر حول المجتمع الشبكي وتفكك المجال العام وصناعة الاعلام ومسائل الاتصال والتواصل التي تثير العديد من السجالات تستقطب الكثير من النقاش وخاصة في المجال العربي.
الكتاب لا يكتفي بالعرض النظري والمدرسي للاتجاهات التي سادت وانتشرت في مجال سوسيولوجيا المعرفة أكاديمياً، لكنه يوظفها ليتابع مهمته الشاقة بدراسة وتحليل الانتاج المعرفي العربي، مقدماً خريطة تحليلية معرفية نقدية للفكر العربي المعاصر في الفصل الرابع عشر، منطلقاً من “نماذج تحليلية” ركزت على تلك التي قدمت مداخل منهجية وابيستيمية أساسية، ومنها محاولة عصمت سيف الدولة الابتدائية في “جدل الانسان”، إلى مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، وعبد الله العروي في نقد الوعي العربي، ومحمد أركون في الاسلاميات التطبيقية وتشريح العقل الاسلامي، ليكشف من خلال اخضاعها لمبضع التحليل السوسيومعرفي مدى تمركز اطروحاتها على ثنائيات وسرديات تعيد انتاج سؤال النهضة حول التحديث والتقدم والعقلانية والعلم والتربية، فضلاً عن والهوية والتنمية والوحدة والديموقراطية بالاستناد الى شبكة مفاهيمية وتحليلية ذات مرجعية غربية أقصى ما يمكن أن تقدمه يتمثل بمقاربات تحاكي التيارات والاتجاهات النظرية والقوالب المنهجية التي ولدت في سياقاتها.
لا يتبنى الكاتب قراءة محددة لكنه يثير الاسئلة حول بعض المسلمات ويفكك ما يظهر فيها من تماسك شكلاني، مؤسساً لمادته في النقد السوسيومعرفي للمجتمع العربي، الذي خصص له فصلين كاملين، هما الفصلان الخامس عشر والسادس عشر، عرض في الأول لمقاربة حليم بركات حول الاغتراب والتبعية والسلطوية كمغذيات للتخلف، وناقش هشام شرابي في مقولته حول البنية البطركية وأزمة الهرمية التسلطية، ثم توقف مع أفكار أنور عبد الملك ومشروعه للتغير الاجتماعي، كما تضمن قراءات تحليلية حول قضايا إجتماعية من منظور سوسيومعرفي تعلقت بنقد البداوة وظاهرة الترييف والتغيير الاجتماعي وتحليل البنى العصبوية والطائفية والمذهبية وكيفية مقاربتها وتحليلها ومن خلال منظورات معرفية متعددة. أما الثاني فقد تناول فيه مقاربة علم اجتماع المعرفة لظاهرة الصراع الهوياتي وإشكالية تضخم الولاءات الماقبل والمافوق وطنية، والتي أدت إلى تضخم غير مسبوق في الهويات الطائفية والمذهبية والقبلية ترافق مع عنف مدمر. يطرح هذا الفصل مقاربة نقدية للقراءات التقليدية السائدة لمقولة مكافحة الارهاب والتطرف وكيفية تحولها الى مقولة وظيفية وأداتية مؤدلجة لا تقدم تفسيراً علمياً للظاهرة، ويناقش مختلف المداخل المنهجية المطروحة لمواجهة فائض العنف السياسي والديني والتي تضمر الكثير من الايديولوجيا والقليل من السوسيولوجيا، وهو ما ينتج وعياً مشوهاً بحقيقة الازمة والتي يرى الكاتب انها لا تجيب عن الاسئلة المفتاحية المفسرة لصعود العنف الديني والسياسي في مجتمعاتنا، لأنها تذهب الى الفروع وليس الى الأصول والجذور وتقع في فخ “المفكر فيه” متجاهلة ” اللامفكر فيه” كمساحة ضخمة لتحليل الظاهر والكامن، الرمزي والمباشر في ظاهرة التطرف الديني، وهو تجاهل يفضي حسب الكاتب الى اعادة توليد وانتاج الظاهرة بأشكال مختلفة. لذلك نراه يشدد على ضرورة قلب الاولويات المعتمدة في دراسة ومواجهة هذه الظاهرة والكف عن اعتبارها منتجاً ايديولوجياً محضاً منفصلاً عن وقائع الاقتصاد والاجتماع والسياسة معتمداً في مقاربته لها باعتبارها ظاهرة مركبة المنهجية التحليلية التعددية التي تستوعب الابعاد السياسية والتنموية والتربوية والانتروبولوجية للظاهرة.
ما الجديد في هذه المقاربة المعرفية ؟ يطرح المؤلف الاشكالية التأسيسية معتبراً أن المقاربات المعرفية العربية بقيت أسيرة إخفاقات المشروع الاصلاحي الذي حمله رواد عصر النهضة، تستعيد اشكالياته نقداً وتفكيكاً وتشريحاً. وما فعله المفكرون العرب حديثاً في تعاملهم مع هذه الإشكالية هو التناول المنهجي لها من خلال المواجهة مع العقل العربي بحد ذاته، فشرعوا بتشريحه وتفكيكه ونقده والحفر في زواياه المعتمة. وقد دخل معهم العقل ميدان المعركة باعتبار الوعي، سواء أكان وعياً بالذات أم وعي الجماعة لذاتها، لا يتحقق إلا بعقلها وعن طريقه.
وما مشروع الجابري فضلاً عن المقاربة الأركونية، وما جاء في سياقهما من نتاج فكري عربي حديث، إلا أحد تجليات الرهان على العقل والإيمان به كمدخل للتغيير، فالنهضة المنشودة مطلوبة من العقل وبدونه لا شيء يتحقق، وبالتالي لا يمكن بناء نهضة بدون عقل ناهض، لم يقم بمراجعة نقدية وإبيستيمولوجية شاملة، تؤسس بالتالي لقطيعة معرفية مع الآليات والمفاهيم والتصورات والرؤى التي تشكل عوائق في منظومة التفكير والمعرفة السائدة.
إذن كان على النهضة المنشودة أن تنتظر ورشة جديدة تم تدشينها بالفعل، ولا يمكن إنكار أهميتها وقد انخرط فيها الكثير من المفكرين العرب، واصبح معهم نقد العقل العربي بمثابة المفتاح المعرفي- السحري الجديد لفهم وتحليل المجتمع تمهيداً لتغييره، وعند البعض لإعادة تشكيل العقل العربي من جديد.
ما الجديد في هذه المقاربة؟ خاصة وأن الإيديولوجيات العربية بكل تلويناتها راهنت على العقل بوصفه المفتاح السحري للتغيير، وللحقيقة يقول المؤلف أن رهانها لم يكن على العقل ” المحض” بإطلاقه بقدر ما كان على العقل المؤطر بالإيديولوجيا. لذلك كان لا يبتغي الحقيقة بحد ذاتها ولا المعرفة لذاتها، بقدر ما كان عقلاً يتطلع نحو السلطة والسياسة، ومطلوب منه التحقق بشروطها. كان عملياً اكثر مما هو علمياً في هذا الجانب، لذلك كان محبوساً بأحكام وقوالب نظرية مسبقة ومحط تجاذب وتأويل مؤدلج من قبل كل التيارات، الأمر الذي ساهم في إفقار جوهره العلمي و قيمته كمعيار للوعي بالذات والواقع، وحوله بالتالي إلى عقل “أداتي” وظيفي في حقل الصراع على السلطة والتجاذب السياسي.
في خلاصة هامة يعتبر عبد الغني عماد انه بين المعرفي والإيديولوجي لا يمكن للعقل أن ينفصل عن الواقع، وبالتالي قد يكون صحيحاً أن المعرفة الصافية والنظيفة، البعيدة عن التلوث بأمراض الواقع هي معرفة واهمة، وأن المعرفة لا بد أن يتسرب اليها شيء من الإيديولوجيا. إلا أن نسبية عالم المعرفة وموضوعيته تقاس سوسيولوجياً وليس إيديولوجياً، استناداً إلى الجرعة المكتسبة من المحمول الإيديولوجي. فكلما زادت الجرعة، تشوهت المعرفة، ومعها ابتعد الوعي عن الحقيقة واقترب من الزيف وأنتج المزيد من الأوهام. الفيصل الضابط لهذه العملية هو العقل نفسه حين يتحرر من المسبقات التي تأسره، بما لا يخرجه من تاريخه وزمانه وديناميته. ذلك انه – أي العقل- يبقى محصلة تشكل جدلية دائمة لا تأتلف مع مفهوم العقل التاريخي السكوني الذي يعتبره محصلة إنجاز متراكم اكتمل وانتهى. فالعقل ليس قوالب تورًث، أو تكتشف، بل عملية تشكل جدلية تكتسب بالخبرات وتنمو بالتجارب المتجددة والمتراكمة ويعاد تشكيله، كما الوعي باستمرار.
كتاب مهم وسجالي يأتي في سياق مشروع بحثي معرفي متكامل يعمل عليه المؤلف، صدر منه كتابين عن مركز دراسات الوحدة العربية:الاول تحت عنوان (سوسيولوجيا الثقافة المفاهيم والاشكاليات من الحداثة الى العولمة) و الثاني تحت عنوان (سوسيولوجيا الهوية جدليات التفكك واعادة البناء)، وهو هنا لا يقدم لنا المعرفة سوسيولوجياً على طبق بارد، بل يتفاعل معها ويقدمها بشكل نقدي ودينامي موظفاً الادب النظري السوسيولوجي الحديث، يسائل من خلاله ما نظنه مسلمات منهجية، حيث يعيد تفكيك بعض الاطروحات المحورية في قراءته للبنية المعرفية العربية وخاصة ما يتعلق منها بتشكل الوعي الديني المعاصر والهوية المجتمعية العربية من خلال ترسانة ضخمة من الادوات التحليلية تدل على معرفة معمقة لدى المؤلف.
( نشرت هذه المراجعة في مجلة اضافات – المجلة العربية لعلم الاجتماع- العدد 41-42- 2018)

الدكتور مصطفى الحلوة في قراءة موسعة لكتاب “سوسيولوجيا الهوية” لعبد الغني عماد

مقارباً سؤال الهوية*
عبد الغني عماد يُغلِّب وقائع السوسيولوجيا ويطَّرِحُ أوهام الإيديولوجيا!
د. مصطفى الحلوة

مدخل: كتابٌ في إطار مشروع فكري له ما قبله وله ما بعده!
هذا الكتاب ليس شأنُهُ شأنَ أطروحة “الرجل المعلق في الفضاء” التي أتانا بها الشيخ الرئيس ابن سينا، في إثباتهِ وجود النفس ومغايرتها للبدن، مفترضاً أن هذا الرجل، قد فُرِّق بين أعضائه، فلم تتلاقَ ولم تتماس!

هكذا، فإن هذا الكتاب غير منعزلٍ عما حوله،وليس بمتقوقع على ذاتِهِ، إذْ له ما قبله، بما يجعلُهُ على تماسٍ، بل التحامٌ مع كتابين قيّمين، ولسوف يكون على صلةِ رحم مع كتابٍ مرتقب في الآتي من الأيام، ولنجدنا أمام مشروعٍ ناجز، يستوي خلقاً فكرياً سويّاً!

وإذْ يموقعُ الباحث عبد الغني عماد مؤلَّفَهُ،الذي ننتدي لأجله اليوم، يذهبُ إلى القول:”.. في هذا الكتاب،نستكملُ مشروعنا البحثي الذي بدأناه، منذ سنوات، في كتاب <> (صدر في طبعة ثالثة 2016، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان)، ثم تابعناه بكتاب ثانٍ، بعنوان :الهوية والمعرفة، المجتمع والدين (صادر عن المركز نفسه في العام 2016). ولقد كان لنا أن نُقارب الكتاب الثاني غداة صدوره.

تعقيباً نرى أن هذا المؤلَّفَ، وإن كان يُضيف مدماكاً مكيناً إلى عمارة المشروع الذي ينهدُ إليه باحثنا، فثمة مدماكٌ آخرُ، ينبغي إقامتُهُ، حتى يُعطي المشروع العتيد أُكله، وذلك عبر مؤلَّف رابع، لا بد أن يتخذ لنفسه العنوان الآتي: “سوسيولوجيا الذات العربية/ إعادة البناء في رحابِ عالم يتغيّر!…”
تعليلاً ، فإن باحثنا، في دعوته إلى تعميق القراءة التفاعلية، بين مختلف المعطيات لتوليد نوع جديد من التساؤلات العلمية لفهم وتفسير المصير الذي آلت إليه المنطقة العربية، في تحولاتها إلى ساحة صراع هوياتي متمذهب ومفتوح، يرى أن ثمة حاجةً ماسةً لإعادة بناء الذات وتأهيلها لمواجهة العصر، بأدوات وآليات جديدة (راجع ص ص 281- 282).

في بانوراما الكتاب/ السردية الأكاديمية كمداخِل تأسيسية للعبور إلى الهوية العربية:
على غِرار ما درج عليه الباحث عماد،عَبْرَ مختلف أبحاثه، فقد كان له في هذا المؤلَّف، وهو يُقارب الهوية العربية، أن يُمهِّد بعشرة فصول تأسيسية، حول الهوية الثقافية بعامة، مُعزِّزاً الإطار النظري لأطروحته. من هنا كان إبحارٌ فكريّ طويل، عرّج على محطات مُتعددة، وقد أخذه إلى سردية، يستعرض عبرها أهم المقاربات الانتروبولوجية والإيديولوجية والسوسيولوجية لمسألة الهوية، متوقفاً، بشكل وافٍ ، عند ظاهرة العولمة ومنعكساتها، ناهيك عن الدور الذي تؤديه تقنيات الانفوميديا، التي تتضاعف أهميتها، بدءاً من مطلع هذا القرن، في ظل ما يُطلق عليه “المجتمع الشبكي”. (راجع ص 14).

هكذا، نجدُنا بإزاء مُقرَّر أكاديمي/ تعليمي، يُفيد منه الطالب الجامعي، ويشكّل عوناً للمشتغلين بالسوسيولوجيا، ويغدو مرجعاً ثرّاً للمنهمّين بالمعرفة.

في تعزيز لمادة الكتاب وإسنادٍ لمقاربته اشكالية الهوية الثقافية، وسَّع الباحث من مروحة المصادر والمراجع التي اعتمدها، من عربية وأجنبية: إنكليزية وفرنسية، إلى دورياتٍ ومواقع الكترونية.

.. في تفصيلٍ مقتصدٍ لمحتويات هذه الفصول التأسيسية، فإن الفصلين، الأول والثاني، إذْ يُكبّان على جدليات الهوية والثقافة والوعي، فقد كان وقوفٌ عند المقاربة الماركسية والتأصيل الإيديولوجي، بُغية البحث عن هوية عالمية جديدة،وصولاً إلى التفكيك السوسيو-معرفي والاتجاه النقدي. وفي فصل ثالث، يتصدّى الباحث لدور اللغة من جهة،ومفهوم الشخصية الإنسانية من جهة ثانية، كمدخل لفهم سيرورات الثقافة. أما في الفصل الرابع، فثمة استعادة لأطروحة، كان قد اشبعها بحثاً في كتابه السابق (الهوية والمعرفة، المجتمع والدين)، فراح إلى الدين والتديُّن والأقليات، واضعاً إياها تحت مجهر الفحص والتحليل، رائياً إلى الدين كمولّدٍ لديناميات القلق واليقين وسط الجماعات والمجتمعات. في الفصل الخامس، يُقدّم الكاتب إطاراً نظرياً، فينصرف إلى جدلية الوعي والمعرفة والفعل، واستطراداً إلى الباراديغم (النموذج الإرشادي) المعرفي، المحرّك لعمليات التوليد والإقتصاد والولاء والانتماء الهوياتي. وعن الفصل السادس، فإن الباحث يُغذِّ السير عميقاً في المجال الهوياتي وإشكاليات التصنيف والانتماء والاستراتيجيات المتولدة في هذا الحراك. وفي الفصل السابع ثمة تركيز على التداعيات التي أصابت الثقافة، بوصفها بانيةً أشكال الهوية ومضامينها، إلى مسارات الهويات على تخوم العولمة.
ويأتي الباحث ليستكمل في الفصل الثامن ما توقف عنده في الفصل السابق، فيعمد إلى مقاربة ، على مستوى المايكرو،وبما يأخذه إلى حفرٍ في المجال التواصلي وآليات بناءوتفكك المجال العام “الهابرماسي” ، في ضوء صناعة الإعلام والانفوميديا وفضاء التدفقات والمجتمع الشبكي.وفي الفصل التاسع، يلجأ الباحث إلى تفكيك منطق التعصب والتطرف الهوياتي، فنلفي أنفسنا أمام تحليل معمّق لدينامية الجماعة. و”الآخر”، وعمليات الاستثمار في الكراهية. وقد كان بذا تفكيكٌ للعقلية الدوغمائية القائمة على وهم امتلاك الحقيقة المطلقة. أما ختام هذه الفصول التأسيسية، فإن الكاتب يطرح على بساط البحث إشكالية الاندماج الاجتماعي وصناعة “الهويات الصلبة” والمقاربات التفسيرية المختلفة، في مجال العلوم الاجتماعية.

.. هذه الفصول “الدسمة”- كما يتبين من العناوين التي تندرجُ تحتها- لم تُغادر كبيرةً أو صغيرةً، حول إشكالية الهوية الثقافية ومستتبعاتها، الا وتوقفت عندها. من هنا كان حشدٌ لمجموعة من النظريات السوسيولوجية وسواها من نظريات معرفية، تذهب تنظيراً إلى أبعد حدود الحفر والتفكيك، غير مقتصرة على سردية استعراضية، إذْ كان استدخالٌ لرؤى الباحث عماد في كل مسألة من المسائل التي تمّ التعريج عليها.

ولا غروَ أن هذه الفصول، التي وسمناها بالتأسيسية، وفّرت الإطار النظري الشامل والمعمّق للأطروحة التي يكبُّ عليها الفصل ا لحادي عشر الذي يتناول الهوية العربية/إشكالية التشكل والتفكك. ولقد وفق الباحث عماد بالدخول إلى هذه الأطروحة عبر ستة مداخل، ضارباً عليها حصاراً بحثياً، مكَّنه من إبرازها، بمختلف وجوهها وتجلياتها وآليات اشتغالها. وعن هذه المداخل، فهي على التوالي: الهوية القلقة والإرهاصات النقدية/ هوية مُتنازع على مرجعيتها.. الأمة والدولة والجماعة المتخيلة / الهوية القومية: أوهام الإيديولوجيا ووقائع السوسيولوجيا/ الدولة بصفتها غنيمة/ العصبيات والأقليات.. السياسة في خدمة القبيلة/ متلازمة الفساد والاستبداد، كمُنتج موضوعي للتطرف والعنف الهوياتي.
.. هذا الفصل الأخير،الذي يعنينا أكثر ما يعنينا، لراهنيةِ أطروحته وكونه مسيساً بنا، كعرب وكمسلمين، لا يتكامل فصولاً، إلا بانتهاء الباحث إلى حصيلةٍ، جاءت بعنوان: “نماذج جديدة تتشكّل”، تتضمن تساؤلاتٍ حول الخروج من المأزق الهوياتي الذي يستبد بهذه المنطقة وشعوبها، لا سيما في ظل العولمة، كمستجد كوني، لا يمكن أن نضرب عنه صفحاً.وهكذا كان ربطُ نزاعٍ- بلغة الحقوقيين- يؤشِّر على نيةٍ مضمرة لدى الباحث للإطلال بمؤلَّف جديد، يستكمل عبره مشروعه الفكري الذي يؤرقه. وقد كان لنا أن نقترح عليه مُقاربة الذات العربية، من حيث إعادة بنائها في رحاب عالم يتغيّر.

في مقاربة الهوية الثقافية العربية/ تهافت الإيديولوجي والميتاتاريخي أمام السوسيولوجي!
انطلاقاً من اقتناعٍ راسخٍ لدى باحثنا أن الأفكار، وإنْ عبَّرت عن حاجاتٍ وأزماتٍ سياسية وثقافية ومعرفية، فهي تتموقع في الصميم من المجتمع، وتنضوي إلى حركته التاريخية ذات السِمة الصيرورية. وتماشياً مع هذا الاقتناع، كان له أن يوسِّدَ السوسيولوجيا موقعاً مُتقدِّماً على ما عداها من حقولٍ معرفية أخرى. فالباحث عماد، عبر رؤيا ثاقبة ، لا سيما من زاوية المنهج، ما فتئ يُردِّد، في معرض مقاربته أية ظاهرة مجتمعية، أن كل ظاهرة تغتذي من السوسيولوجيا أكثر مما تغتذي من الإيديولوجيا وسواها من عوامل ومشغِّلات . وقد غدا هذا التوجُّه المنهجي كمُسلَّمةٍ لها موقعُ الثبات لدى باحثنا، مما جنّبهُ الوقوع في الفخ المنهجي للرؤيا التي تُغلِّب المقاربة التاريخية المفضية إلى التسيُّس والأدلجة.

ولقد وقر في وعي الباحث عماد أن الإيديولوجيا، مهما عظُمت شأناً وأثراً، لا يمكنُ أن تُلغي وقائع السوسيولوجيا. وفي هذا الإطار، ومصداقاً لهذا التوجه، يذهبُ الفيلسوف ناصيف نصار إلى “أن النقد بواسطة العلوم الإنسانية- بالطبع علم الاجتماع في رأس قائمة هذه العلوم- هو سبيل الخروج من دوامة النقد العقائدي الدوغمائي”! (من تعقيبات العميد ناصيف نصار، في أعمال المؤتمر الفلسفي العربي الخامس/ حق الاختلاف وسؤال الهوية بين 16 و18 كانون أول 2008- كلية الآداب- الفرع الثالث).
هي شهادةٌ قيّمةٌ، بل هي بمنزلة “فتوى”، من لدن مُشتغل كبير في الفلسفة، يدعو جهاراً إلى مقارباتٍ تتعدّى الفلسفي إلى الإطار المعرفي الأكثر اتساعاً، لمجانبة الدوغمائية القاتلة، وهي إحدى أهم العلل التي يُعاني منها العقل العربي راهناً!

في مقلبٍ آخر للمسألة نرى أنه لا يمكن دراسة تشكُّل الهوية وحركتها وانبنائها من خلال مقاربة سكونية، فالفاعل الاجتماعي تواجهه بالضرورة مسألةُ الغيرية، في صراعه مع متطلبات تشكّل الهوية. وهكذا، والحال هذه، فإن كل تحرك اجتماعي يقود الهوية إلى إعادة صياغة نفسها، على نحو مغاير. وإذْ تخضع الهوية لقانون الصيرورة، فذلك طبيعي، كون الإنسان ليس شيئاً ليغدُوَ ذا ماهية مستقرة!

ولقد كان لباحثنا أن يتوقف ، في مقدمة الكتاب، عند هذه المسألة، فذهب إلى أن “الوعي بالهوية لا يأتي بالمطلق من خارج المجتمع أو من خارج سياق التاريخ، فهي لا تهبط من كوكب آخر، ولا تأتي من خارج الزمن. فالهوية حركية، مستمرة في التاريخ، تكتسب المعنى والمضمون، كتجربة إنسانية خاضعة لصيرورة العيش ولديناميات الصراع وتحدّيات الواقع”(مقدمة الكتاب، ص 29).

وإلى ما ذكرنا، فإنه بإزاء ظاهرة مركبة- كما ظاهرة الهوية- على حظ من التعقيد المفهومي، ينبغي عدم الاقتصار على مقاربة آحادية الرؤيا، بل يجب اللجوء إلى مقاربات متعددة.
من هنا كان للباحث عماد أن يتبنّى مقاربة مركّبة للإحاطة بإشكالية الهوية الثقافية، متأسّياً السوسيولوجي “ماكس فيبر”، الذي ينتهج، في مقارباته، ما يُطلق عليه “السوسيولوجيا الفهمية”.
إثر هذا الاستعراض “التنظيري” الذي يعبر بنا إلى الهوية الثقافية العربية، بكل محمولاتها وأبعادها، ثمة تساؤلات ، قد يُرى إليها أنها من طبيعة فلسفية، نُبقيها معلقةً، حتى لا نُشوِّش على المسار السوسيولوجي الذي يسلكه هذا المؤلَّف. هي أسئلةٌ قد توسِّع من مدار الرؤيا السوسيولوجية للمسألة ،وهاكُم بعضها: سؤال الهوية هل هو سؤال حقيقي أم سؤال زائف؟ هل هو سؤالُ تقدم أم سؤال أزمة؟ هل هو سؤال حرية أم سؤال تسلط؟ وهل ما نقاربه هو الهوية الجمعية أم هوية الفرد أم هوية الذات الإنسانية؟ (أسئلة تم تطارحها في المؤتمر الفلسفي العربي الخامس حول: حق الاختلاف وسؤال الهوية- سبقت الإشارة إليه).
إن ما يدفعنا إلى هذه الأسئلة- وإن كان يُتوهَّمُ، من قبل البعض، أنها من خارج السياق- وجودنا، كبشريةٍ، في حِقبة تاريخية مُزلزلة، ساحتُها عالم جديدٌ يتخلّقُ على إيقاع العولمة التي تمثل حدثاً قيامياً (أبو كالبسياً)، بكل المعايير. هو عالمٌ جديدٌ بإزاء عالمٍ بطُلت صلاحيته: جوهراً وأعراضاً ومنظومات قيم- غير مُغفلين البُعد الصيروري لمسار التاريخ- وكأننا في قطيعةٍ مُطلقةٍ وطلاقٍ بائن مع مرحلة على دروب الانقضاء!
في هكذا محطات وجودية كونية يكون للفلسفة، عبر شمولية نظرتها، دورٌ، قد لا يتعدّى حدود التفكُّر، فتضع رؤاها في عُهدة العلوم الإنسانية، ومن ضمنها علم الاجتماع، فتفيد منها هذه العلوم أيّما إفادة. وإذْ نستلُّ من تاريخ الفلسفة الطاعن في الزمن مثالاً، يصبُّ في شرعنة الأسئلة التي طرحنا، نجدُنا أمام سُقراط الذي ضاق ذرعاً بجنوح الفلسفة إلى الانطولوجيا، فكان أول من “أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض”، لتحايث الإنسان، زماناً ومكاناً، وتكب على المعيش من أزماته وقضاياه.
… وإذْ نعبُرُ إلى موضوعنا،الهوية الثقافية العربية، التي تشغل الفصل الحادي عشر، كما ذكرنا آنفاً، نرى أن الباحث عماد، يتبنى مقاربة مفتوحة ومرنة غير مؤدلجة. بمعنى أنها غير محكومة بمسبقات وكليشهات منمطة. وإذْ ذهب إلى منهج علمي تفكيكي، فقد أسقط كل الذرائع ذات السمة الغيبية، والميتاتاريخية، مرجحاً دور العقل والتحليل الموضوعي السليم.
… في استعراض باحثنا مسار الهوية العربية، يعود القهقرى إلى جذور المسألة، ليقف على كيفية تعاطيها، بل تشكلها، إبّان القرن التاسع عشر، من قِبل الإسلام النهضوي الذي مثّله آنذاك جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد رشيد رضا. وقد كان لمفهوم هذه الهوية أن يشهد انعطافةً مع الإسلام الصحوي، الذي أفرز لاحقاً الإسلام الجهادي، وذروة هذا الإسلام الأخير ما خبرناه وعايشناه، ولما نزلْ، مع تنظيم الدولة “داعش” وما لفّ لفّها من تنظيمات إسلامية مُتطرفة.
في ظل ذلك الطيف من الإسلاميين،الذين وجدوا أنفسهم في صراع مع أصحاب النزعة القومية العربية، في النصف الثاني من القرن العشرين، غدت الهوية الثقافية العربية محل تنازع على مرجعيتها. علماً أن التيارين الإسلاميين البارزين، التيار الصحوي (الأخواني) والتيار الإصلاحي الديني، مثالاً، على رُغم تباين طروحاتهما العقدية، موقفاً دفاعياً عن الهوية، أمام زحف ظافرٍ للفكر الحديث. فبحسب الإسلاميين، فإن المشروع القومي العربي هو مشروع تجزئة، يُحلُّ العصبية العرقية والاتنية مكان العصبية الدينية (راجع ، ص262).

وإذْ شكّلت هزيمة حزيران 1967 انتكاسة كبرى لمنطق الدولة القومية وأطروحاتها، فقد كان للتيار الإسلامي، بمختلف تلاوينه، أن يُقدِّم نفسه بديلاً من المشروع القومي العربي المهزوم!

في ظل هذا الواقع المأزوم، بتنا أمام هوية حائرة، تفتش عن نفسها ولا تجد نفسها، على حد قول كاتبنا!

.. في حُمّى الصراع الهوياتي، برز مع القيادي الإخواني سيد قُطب مفهوم هوياتي للحكم والدولة في الإسلام، يقوم على مرجعية العقيدة الإسلامية فقط، وليُفضي ذلك بالضرورة إلى أن لا جنسية للمسلم إلاّ عقيدته التي تجعله عنصراً في الأمة الإسلامية (ص 267).ومع قيام الثورة الإيرانية 1979، صعد إلى المشهد الهوية الإسلامية، بنسختها الإيرانية القائمة على مرجعية المذهب.

هذا الواقع الهوياتي البائس، سُنِّيُهُ وشيعيُّهُ، كان له أن يُضيِّق مساحة الحوار والاجتهاد، فيفقد المشروع الإسلامي هويته التوحيدية والنهضوية، كما خاصيته التأسيسية التنويرية التي أرساها الآباء المؤسسون، وتبدّدت أدراج الرياح! وقد كان لهذا المشهد الهوياتي أن يؤول إلى احتراب فكري وسياسي.
والأنكى ، بل من سُخرية القدر، كان جنوحٌ إلى استعادة خصوماتٍ وجدالاتٍ تاريخية ومذهبية وفقهية عقيمة، جرى توظيفُها في الصراعات السياسية، فكان بروزٌ طاغٍ لهوياتٍ قاتلةٍ ومتوحشة(راجع ص ص : 267- 268).

وعلى رُغم ما يُوسمُ به الفكر الاسلامي من نعوتٍ، كفكر رجعي ولا يحمل مشروعاً لبناء دولة، فإن تجربة الفكر القومي العربي، في الدولة والسياسة، لم تكن أفضل حالاً من تجربة الإسلاميين. فالدولة القومية العربية تحوّلت على أيدي “القومجيين” إلى دولة أو سُلطة ، مارست التقية الماكرة، عبر علاقة مُلتبسة مع الإسلام، تعلو وتهبط، على إيقاع مصلحي، ولا تستقر على حال!
ولا بد، من موقع الإنصاف، من أن نُشير إلى نصوص تأسيسية، من لدن الرواد العروبيين الأوائل، غلب عليها البعد الليبرالي العلماني، ومثالنا كتابات ساطع الحصري وقسطنطين زريق، إلى آخرين لم يبلغوا شأو هذين الكتابين اللذين أغنيا الفكر القومي العربي برؤى يُعتزّ بها ! وفي عِداد هذه الرؤى، كان سؤال مُحيّر: أي آخر نقاومه أولاً، أهو الأوروبي المستعمر أم التركي المستبد؟ وأي السلاحين نشهر، سلاح العروبة أم سلاح الإسلام؟ ( ص 268). إشارة إلى أن هذا السؤال لم يكن مطروحاً بهذه الصيغة في المغرب العربي، لعدم وجود التركي، إذ كان يُوجد الأوروبي فقط.

.. في مرحلتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان للخطاب القومي أن ينحو إلى الأدلجة، في ظل انقلابات عسكرية، بين الفينة والأخرى (35 انقلاباً بين عامي 1949 و 1970!)، ولتتولى العسكريتاريا العربية قيادة العمل القومي العربي! وكان هان الأمر لو توقف عند هذا الحد، بل غدت الأجهزة الأمنية كوادر قومية تحكم قبضتها على مقدرات الدولة جميعها (ص 269).

ومن تداعيات هذا الوضع البائس أن نُظر إلى الدولة على أنها غنيمة ! وبذا لم يتم التركيز على بناء نظرية في الدولة والمواطنة والمؤسسات وفصل السلطات.
إيجازاً يمكن القول إن تاريخ الدولة الوطنية العربية يُختزل في الصراع على السلطة، بما يُعلي شأن الشرعية “الثورية” بديلاً من الشرعية الشعبية ( ص ص : 270- 271) .

ولقد كان للعصبيات والأقليات السياسية أن تغدو في خدمة القبيلة (ص 272) وإذْ جنح النظام العربي إلى التأبُّد في السلطة، عبر واجهات عدة، أبرزها التوريث، فقد كان توظيفٌ ، من قبل الدولة وأجهزتها للمكونات الدينية والمذهبية والاتنية، مع إخضاعها للعبة توازن القوى، داخل السلطة، بما يخدم مصالح هذه السلطة.

وقد كان جرّاء ذلك تحويل الأقليات إلى كيانات هوياتية مغلقة وجماعات تتنكر لهويتها القومية والوطنية الجامعة. (ص 273).

وفي ذروة التشظّي العربي، على جميع الصُعُد، ألفينا أنفسنا بإزاء متلازمة الفساد والاستبداد، كمنتج موضوعي للتطرف والعنف الهوياتي.

هكذا، والحال البائسة هذه، كان للهويات المتشظية، في الوطن العربي، أن تُطيح الهوية الجامعة، ولتغدو مُحرِّك العقل الجمعي، مُحيلة إياه إلى نزعة أقلوية، تتوجس خيفةً من المختلف، تخوِّنه وتشيطنه حيناً، وتكفِّره حيناً آخر، وبما يُحيل التعددية إلى وهمٍ وخرافة، في ظل هذا الواقع الهوياتي الموبوء!

في هذا الصدد، يذهب الباحث عماد إلى القول:” تلك هي الإشكالية التي يتأسس في مُناخها الوعي الشقي، حيث يقع الجميع في فخ ثقافة القطيع. تلك هي إشكالية الهوية والمغايرة التي يتغذى في فضائها الخطاب الديني والمذهبي المسيّس، بكل تياراته، مدمّراً المشتركات والجوامع التوحيدية، مشيّداً على أنقاضها قبائل هوياتية جديدة، يُعادُ تشكيلها” (ص 274).
.. وكمحصلةٍ لهذا الواقع الهوياتي الذي يستبد بالمنطقة، وهو ذو سمة تذريرية، إلى سائر ا لتوصيفات التي توقفنا عندها، يخلص الباحث عماد إلى أننا اليوم أمام ثلاثة مشاريع هوياتية، يُعاد تشكيلها، على وقع صراعات دامية، يتمثل الأول بمشروع المجال الهوياتي الشيعي، وفق نموذج ولاية الفقيه المتمدِّد في قلب الوطن العربي. أما الثاني، فيتمثل بمشروع المجال الهوياتي السُنّي، “الحائر” بين النموذج التركي الناجح والنموذج العربي والإسلامي السلفي. وعن المشروع الثالث، فهو مشروع المجال الهوياتي اليهودي المتصهين، نموذجُهُ الإسرائيلي والشرق أوسطي “المحاصر” حتى الآن ( ص 280).

.. في خضم هذه المشاريع “المجالاتية” وحُمّاها، يبقى السؤال لدينا، كعربٍ، ذلك السؤال المزمن: ما العمل؟ وإذْ يجهد الباحث عماد في الإجابة عنه، فعبر مجموعةٍ من المبادرات والتدابير، نوجزها في الآتي: إطلاق ورشة تاريخية لإعادة بناء الذات العربية وتأهيلها لمواجهة العصر بأدوات وآلياتٍ جديدة/ مغادرة حقل الثنائيات التي وقع الفكر ا لعربي في أسارها ولما يزل والجاً فيها/ عدم إلقاء اللوم على الثقافة المعولمة وتحميلها مسؤولية ما يحيق بالمجتمعات العربية من مآسٍ/ عدم التوهم بأن مناهضة خطاب العولمة وتداعياته الثقافية ممكن من طريق رفض الحداثة والعقلانية والتنوير/ إعادة بناء هوياتي في سياق جديد يتناسب ومعطيات ما أنتجه الفكر الإنساني من صيغٍ، تحفظ كرامة الإنسان وهويته (راجع ص 282).

هذه “الوصفات” الناجعة، بركائزها المتعددة، هي ما يدفعنا إلى حث الباحث عماد على استكمال مشروعه الفكري، عبر مؤلّفٍ رابع، سبق أن اقترحنا عليه عنوانه. فهل هو فاعل؟ تلك هي المسألة!

خاتمـة:كتابٌ راءٍ ذو خطر، وباحثٌ يشهدُ لزمنه من موقع الاقتدار!
في مراجعتنا “الهوية والمعرفة، المجتمع والدين” التي مضى عليها عام وبضعة أيام ( 2 شباط 2017)، كنا قد دعونا الباحث عماد إلى أن يتنكّب مهمة العبور بمشروعه الفكري المؤصّل والرائي، فيندرج في السيرورة المجتمعية، طالما أنه كان قد قطع شوطاً بعيداً في هذا السبيل. واليوم، إذْ يضيف الكاتب، عبر المؤلَّف الذي قاربنا اليوم، مدماكاً إلى مشروعه، نرى أن مهمته لما تنتهِ بعد!

ثمة أسئلة تفاعليةٌ يدعو إليها، في الصفحات الأخيرة من الكتاب، تفتح بالضرورة آفاقاً واسعة على مؤلفٍ عتيدٍ، يُشكل الحلقة الأخيرة، في سلسلة المؤلفات الثلاث التي سبقت. من هُنا نتطلع إلى أن تكون وجهته ، كما أسلفنا، الذات العربية، سيما أن الذات أوسع مدىً من مفهوم الهوية. وفي رأينا المتواضع، الذي لا نصدر فيه عن جنوحٍ إلى خطاب فلسفي، نذهب إلى أن ما يشهده كوكبنا اليوم من أزماتٍ وجودية مزلزلة، على إيقاع العولمة، في شقها المتوحش العامل على تهديم الهويات الوطنية… كل أولئك يستدعي توسيع إطار المعالجة، فيكون عبور- ودائماً من منظور وقائع السوسيولوجيا المستهدية بأقباس فلسفية-، إلى الذات العربية! لعل ذلك يجيب عن سؤال مزمنٍ لا زال معلّقاً على مشجب الانتظار، وهو السؤال الذي توقف عنده ملياً الآباء الأوائل للنهضة العربية: لماذا تقدم الغرب ولا زلنا نتردى كعرب في مهاوي التخلف؟!

في هذه المغامرة الفكرية الرائدة التي يتنطح لها عبد الغني عماد، ليس المهم الخلوص إلى نتائج حاسمة،إذ يكفيه شرفاً فكرياً أنه يُحاول ما استطاع إليه سبيلاً.

وإذا كان مفكرٌ بمفكرٍ يُذكر، نذهب إلى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر، إذ قبل أيام من رحيله عن الدُنيا، اختار أن يُصدِّرَ مجموعة مؤلفاتهِ الكاملة، بهذا الشعار / المقولة “طُرُقٌ لا مؤلفات!”. فقد أراد أن يُشير بذلك إلى أن فكره يجب أن لا يُختزل بمجموعةٍ من الأطروحات، وأن هذا الفكر القائم على التساؤل الدائم سيُحافظ على طابعه، كطريق لم يكتمل!

هكذا، سواءٌ أأتى الكتاب العتيد المنتظر بالترياق من العراق- كما يُقال- ام لم يفعل، يبقى أن عبد الغني عماد سيبقى مُغِذّاً السير في دروب البحث الأصيل، لا يرتجي إلا وجه الحقيقة، والشهادة لزمنه، من موقع الاقتدار!

السوسيولوجيا والبحث البيوغرافي: عودة الاعتبار لتجارب الحياة – الدكتور عبد الغني عماد

السوسيولوجيا والبحث البيوغرافي: عودة الاعتبار لتجارب الحياة
الدكتور عبد الغني عماد
أدت الاستعمالات المتعددة للبحث البيوغرافي وتعدد التقاليد الأكاديمية التي يعتمد عليها، إلى التعبير عنه بمصطلحات، أهمها: البيوغرافيا والبيوغرافيا الذاتية Auto/biography اللذان استعملا أولاً في التراث الأدبي الغربي قبل استعمالهما في مختلف فروع العلوم الإنسانية الأخرى. ويقابلهما عندنا مصطلحي السير والسير الذاتية المستنبطين من تراثنا الأدبي والديني. وأما الفرق الأساسي بين المصطلحين، فيكمن في كون السيرة الذاتية تعني ترجمة سيرة حياة الكاتب نفسه، أي عرض الحياة الشخصية مروية بطريقة طبيعية من طرف المعني بالأمر نفسه بناء على دوافع خاصة وبإرادة خاصة، في حين يعني مصطلح “السير” وتسمى أيضاً بالتراجم العرض الخارجي لحياة المعني بالأمر – حياً كان أو ميتاً – اعتماداً على مصادر وثائقية فقط أو بواسطة الجمع بين الوثائق والمقابلات مع المعني بالأمر أو مع أشخاص آخرين من محيطه. وتعتبر السيرة الذاتية Autobiography أقل استعمالاً في الأوساط الأكاديمية لأنها لا تسمح كثيراً بالتحكم في عملية التذكر، بشكوكها ونسيانها، مما يشكل في حد ذاته مؤشراً دالاً على كيفية مقاربة الكاتب مختلف مراحل حياته، ولكنه يقلل من فرص التحليل العميق لشخصيته، ويكثر من احتمالات التزوير وإخفاء الأحداث. أما في ما يخص تعريفهما الأكاديمي، العلم اجتماعي، فالشائع بين كثير من المتخصصين توحيده وجمعه في عبارة: “بناء الواقع الاجتماعي” عن طريق قصة أو ترجمة حياة عديد من أشخاص، بطلها واحد. فإن ما يفضل بحثه عادة هو “كيف” و”لماذا” حدث ذلك أكثر من “ماذا” حدث، لأن الأفعال عبارة عن أحداث فردية ذات أهمية محدودة بخلاف الدوافع والتبريرات والتفسيرات والأحكام والقيم والأهداف.. المتحكمة في كيفية حدوث الأفعال وفي أسبابها .
استعمالات المنهج البيوغرافي
إن البحث البيوغرافي – بتقنياته الخاصة بالسير المتعددة – قد يهتم بموضوع مهني واحد، كما يمكن تطبيقه أيضاً في دراسة أي تشكيلة اجتماعية أخرى ذات أبعاد ديموغرافية محدودة (حي حضري، قرية صغيرة، جمعية خيرية..) فالفكرة الأساسية للعملية تتمثل في العمل على توجيه سير التجارب الشخصية نحو نقطة التقاء مركزية ونقطة اهتمام مركزي وموضوع مشترك، يفترض أن يكون المبحوثون أعضاء مشاركين فيه وملاحظين خارجيين في الوقت ذاته، مثل موضوع التغير الاجتماعي في قرية ما، وتجربة المهاجرين، وتأسيس حزب سياسي ما، إن هذا الالتقاء يحدث بالضرورة بعضاً من التشبع Saturation المعلوماتي، لأنه يسمح لنا بفرز الخصائص الذاتية الملازمة للمبحوثين عن العناصر المشتركة للظاهرة الاجتماعية. أما المسار التاريخي لاستعمال السير والتراجم بمختلف أنواعها في العلوم الاجتماعية، فأمر تعود بدايته إلى عشرينيات من القرن العشرين، وذلك مع ذيوع مؤلف “الفلاح البولندي” The polish peasant لـ “توماس” و”زنانييكي”، ونشر أعمال مدرسة شيكاغو حينما بدأ استعمال مصطلح Life story للتعبير عن السير الذاتية تحديداً، التي قد تنشر معدلة أو من دون أدنى تعديل لدعم قوتها بوصفها شاهداً واقعياً.
للبحث البيوغرافي في إطار المقاربات المنهجية النوعية خصائص عدة يتميز بها عن التقنيات والوسائل الميدانية الأخرى، أهمها أنه يسمح في المراحل الأولية بصياغة الفروض، ويدخلنا بعمق في علم العلاقات الاجتماعية الأولية، إذ عن طريق السيرة الذاتية يمكننا تحويل بؤرة اهتمامنا بسهولة نحو العلاقات العائلية أو نحو نموذج تشكل علاقات التنشئة الاجتماعية (الشلة، وجماعة الرفاق، والحي، والجيران، والجمعيات..) أو نحو العلاقات بين رفقاء العمل (المهنية وغير المهنية). كما أن هذا المنهج يمكننا من التحكم شبه الكلي في المتغيرات التي تفسر سلوك الفرد داخل جماعته الأولية، ويمكن ممارسة هذا التحكم ليس فقط عن طريق الترجمة الذاتية لسيرة حياة الكاتب بل يمكن تكملة ذلك بتصريحات الأشخاص المكونين لمحيطه الاجتماعي المباشر باستعمال السير الذاتية المتقاطعة. وهو يغنينا عن جل البيانات المحتملة التي يمكن تحصيلها عن طريق الاستبيان، والمقابلة أو أي تقنية ميدانية أخرى (باستثناء الملاحظة بالمشاركة طبعاً).
بعض سلبياته وصعوباته
ومن أهم هذه السلبيات، أن للسير/الذاتية هدفاً واضحاً تكتب من أجله، يستوجب من الباحث التساؤل عنه. فصاحب السيرة عادة ما يتحول إلى شخص يمثل نموذجاً: المهاجر، المدمن، الشاذ، المتسول، المنحرف، النابغة أو السجين.. الخ. فالأمر لا يتعلق بإعطاء معنى لحياته الشخصية بل لحياة هذا النوع من الأشخاص الذين يفترض أنه يمثلهم. وبهذا المعنى فإن علم الاجتماع النوعي لا يختلف كثيراً عن علم الاجتماع الكمي: استعمال الأفراد لفهم بنية المجتمع والعمليات الاجتماعية. وثمة سلبية أخرى تكمن في الصعوبة العملية، التي قد تكون أحياناً حادة جداً، في الحصول على “إخباريين” جيدين، مستعدين للتعاون ولديهم سير جيدة للدراسة.
كما أن هناك صعوبة منهجية تتعلق بتحديد عدد السير الضروري لبناء بحث بيوغرافي ذي مصداقية علمية. بحيث نجد أن بعض البحوث اعتمدت على رواية بيوغرافية واحدة، تقابلها بحوث شملت عشرات السير المستخرجة من الوسط الاجتماعي نفسه.
إن أحد المزالق الخطيرة التي قد يقع فيها بعض مستعملي هذا االنوع من البحوث، هو الاعتقاد بأن السيرة الذاتية تكفي وحدها، ومن ثم فهي تغنينا عن أي تحليل في العمق للمادة المجمعة.
وفي المقابل، تظهر خطورة الانبهار أو الانخداع الناتج عن الحصول على رواية جيدة للسيرة الذاتية، والتي قد تقوم بدور “الشجرة التي تمنعنا من رؤية الغابة”. إذ غالباً ما لا تكون القصة الجيدة هي الأصدق ولا الأكثر تمثيلاً. فإن المقياس الرئيس لاختيار الروايات البيوغرافية المعدة للتحليل هو توافقها مع قياسي الصدق (التوافق مع الأهداف الموضوعية للبحث والتمثيل (التناسب مع نوع اجتماعي محدد مسبقاً). ومع ذلك يبقى مشكل مصداقية العروض الشفوية أو الكتابية للمبحوث مطروحاً بحدة، إذ كيف تتأكد من صدقه مع العلم أنه قد يجانب الحقيقة عن قصد أو عن غير قصد، بسبب النسيان أو سوء التقدير، مما قد يجبرنا على البحث والتحري بالرجوع إلى التحليل المنهجي والعلمي لسيرة الراوي، ولخلفياته المتعددة ولدوافع روايته ومضامينها. كما تعتبر الحالة العكسية للعنصر السابق والمتمثلة في المبالغة في إساءة الظن واتخاذ موقف نقدي مسبق من المبحوث، أي الشك بانتظام في مصداقية أقواله، مضرة جداً: إن هذا الموقف قد يقضي على مشروع البحث وقد يؤدي إلى وضع مفرط في التوجيه .
دور الباحث ومهمته
من أهم أهداف الباحث الاجتماعي الذي يريد استعمال السير الحياتية، الحصول على أحسن الظروف الملائمة لتطبيق منهج بحثه. وهو أمر ليس بالهين، لأنه يستوجب الحصول على مبحوث جيد، مندمج في المحيط الاجتماعي الذي نريد بحثه، وصاحب قصة بيوغرافية جيدة. كما يستوجب أن تكون رواية سيرته مهمة وكاملة، وهو أمر خاضع كلياً لخصائص المبحوث المختار: عقلاني وطبيعي وصريح وواضح في كلامه ويدرج في حديثه أحداثاً لطيفة وظريفة ويتميز بالنقد الذاتي وبُعد النظر، كما يكون منتظماً ومستعداً للتعاون حتى النهاية. بدون هذه المستلزمات، يكون من الصعب على الباحث الشروع في تجريب هذا النوع من البحوث العلمية.
ففي مثل هذه السير يعتبر الباحث مجرد دافع أو محرّض على العرض، كاتبه المسؤول عن “تنقيحه” في ما يخص تنظيم المعلومات (التي حصل عليها في مختلف المقابلات) دون أن يفوته حثّ المبحوث على تغطية الفراغات الإخبارية التي قد ينساها. وأما في مرحلة نشر السيرة فيمكن للباحث – حسب الظروف – إدخال “رتوش” بعدية على النص بهدف تقليصه (بحذف التكرارات مثلاً) وضبط خصائصه ومميزاته اللفظية والنحوية: علامات الوقف، وتشخيص التأكيدات، والشكوك والصمت وكذا المميزات الصوتية والتركيبية للغة المبحوث.. كل ذلك يعني أن نشر السيرة الحياتية يفترض فيها توافر شروط علمية ونصية وأخلاقية وأدبية مناسبة.
يمكن أن تستخدم الدراسة البيوغرافية بوصفها دراسة حالة، فعالم النفس الأمريكي “ألبورت” كان من هذا الرأي القائم على دراسة حالات بيوغرافية “مكتفية ذاتياً”، وحجته الأساسية تكمن في العمل على اكتشاف القواعد العامة أو النماذج القابلة للتعميم التي قد تتضمنها كل بيوغرافيا خاصة، والتي لا يمكن استنباطها من نظريات علم النفس المتوفرة والمعتمدة على مؤشرات أو متغيرات عامة تخص الكائن الإنساني. فموقفه كان رافضاً لحتمية التنبؤ بالسلوك الإنساني انطلاقاً من افتراضات قائمة على الإحصاء والتنميط السلوكي.
ويمكن ان يستخدم البحث البيوغرافي السير الحياتية المتعددة: في هذه الحالة هناك طريقتان أساسيتان هما: السير المتوازية والسير المتقاطعة. وتستعمل السير المتوازية، باعتبارها نوعاً من السير الذاتية، في دراسة الوحدات الاجتماعية الكبيرة (الفلاحين، والحرفيين، والمتعطلين، والمتفوقين في المدارس، ورياضيي النخبة، والمدمنين على الخمر أو المخدرات..) وتعد قراءة نصوص هذه السير أكثر موضوعية، لافتقارها للمكون الذاتي والقراءة الداخلية القائمة على الدوافع والتي يحاول فيها المحلل أساساً إفهام القارئ أن تراكم عينة كبيرة من القصص البيوغرافية يسمح بإجراء مقارنات وتصنيفات للمبحوثين، أي القيام بتعميمات تخص مجالاً معرفياً معيناً.
أما السير المتقاطعة، فتندرج ضمن رغبة تستهدف تحقيق مصداقية علمية أكبر ونظرة شمولية للموضوع. ويمكن العمل على تحقيق هذين الهدفين عبر عملية استقصائية حيث تخضع العروض الشخصية لمقارنة كل واحد منها بعروض أخرى، من داخل الوسط الاجتماعي نفسه. فلا يكتفي، الباحث مثلاً، بعرض شخصي لمسيرة مهنية لعامل ما بل يقارن عرضه بعروض زوجته وولده الذي قد يكون يمارس المهنة نفسها (هنا متغيرا الجنس والجيل وقد يكون غيرهما في حالات أخرى): فالعرض الأول يقدم الهيكل الأصلي في حين يقدم العرضان الآخران الانسجام، والرأي الآخر، والتميز.. فيثريان العرض الأول، ويبرزان العناصر الواقعية والتصورات الشخصية، لنحصل في الأخير على سيرة ذات مراكز تحليلية متعددة، تتميز بعمق أبعد وموضوعية أكبر، وذلك في شكل تركيب بيوغرافي لا يعبر فقط عن شهادة حياتية مهنية بل عن توجه شبه واقعي وعميق لقطاع مهني واجتماعي بكامله .
يعتبر “الانسجام” Coherence من أهم المواضيع المركزية في السير الذاتية والحياتية، ولذا فإن مادة هذه الأخيرة (بما تتضمنه من أحداث وآراء وتبريرات عقلية وأحاسيس ورسائل وصور ووثائق ومقابلات ويوميات.. الخ) عادة ما تكون مترابطة وتخضع في الغالب لتسلسل زمني معين أو لأي نظام منطقي آخر يعطي للسير معناها العام وانسجامها الداخلي.
بما أن الانسجام ليس ضرورة اجتماعية وثقافية فقط بل مطلباً فردياً أيضاً، فإن الأشخاص الذين يروون حياتهم يستنبطون معيار الانسجام الحياتي وإعادة الاعتبار الأخلاقي الذاتي بحيث يكون تسلسل الأحداث مناسباً وكذا مظهرهم الشخصي. ومن طرق التأكد من هذا الانسجام التقويم الإيجابي لمسار حياتهم في علاقته بالقواعد الأخلاقية (شعبية كانت أو مقننة) التي يرغبون في الاحتكام إليها، وعند الشك فيها أو جهلها، تستبدل بها مرجعيات أخرى مثل: الحس العام، وذوق المبحوث أو شخصيته، مما قد يؤدي بالباحث إلى اكتشاف نموذج خيالي بدلاً من الحقيقي. وكل ذلك يطرح بالفعل تساؤلات نظرية عدة.
هناك توجه مهم عند المؤرخين وعلماء السياسة ومحللي العلم والفنون نحو إنتاج سير أشخاص “مهمين” وأعيان، وأشراف، ونبلاء، ومسؤولين، وجنرالات. وفي المقابل يلاحظ عند علماء الاجتماع في الغرب ميل كبير نحو إنتاج سير الفقراء، والمنحرفين والمهمشين. لكننا نفتقد، عادة، سير الأشخاص العاديين المندمجين والذين لا يعيشون على هامش المجتمع، أي ممثلي ما يسمى بالطبقة الوسطى. وأغلب البحوث البيوغرافية تفضل أن تكون صاحب السيرة منحرفا، مهمشا، مجرما، زانية، شاذاً، سجيناً، لصاً.. حتى لا يفقد قيمته البحثية ويدرج ضمن أدبياتها. وهذا يطرح مشكلة القيمة المرجعية والاعتبارية لمثل هذه السير، وبخاصة في مرجعيتنا الحضارية التي توحي بالأهمية العلمية والإصلاحية للتجارب الإنسانية والسير/الذاتية، وذلك بغية الاستفادة المعرفية والمنهجية والأخلاقية منها.
إن بعض السير تقرأ باعتبارها روايات أو قصص تجمع بين الفن والعلم والأدب والتاريخ والتحليل السوسيولوجي، ومن أمثلة ذلك “مذكرات شاهد القرن (الطفل/الطالب)”، التي يروي فيها مالك بن نبي حياته في إطار سياق تحليل تاريخي وتنظيري عام ينطلق من الواقع الاجتماعي “القسنطيني” ليمر بمختلف محطات حياته داخل الجزائر وخارجها. وبالطبع، فإن المستوى التنظيري للسير/ الذاتية متفاوت من حيث القوة والضعف.
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن المنهج البيوغرافي لا يعمل على إصلاح الحياة الفردية والمنحرفة للأشخاص بقدر ما يعمل على إعطاء معنى ما للعمليات الاجتماعية. ومع ذلك فالملاحظ أن بعض السير الفردية تخلصت من قميصها الفردي والأكاديمي لتكتسح قلوب عامة الناس وعقولهم باكتسابها شهرة كبيرة، بحيث أصبح لها تأثير كبير على حياة الملايين من البشر ومن المنتمين لثقافات مختلفة، فطبعتها بسمات ثقافته الأصلية، بعض منها إنساني معقول وبعضها الآخر خاص وشاذ. وللأسف الشديد، فإن دائرتنا الثقافية في موقع المستقبل وليس المرسل، وهو ما ندعو لتجاوزه بإعداد المزيد من السير/الذاتية المشخصة لمختلف أبعاد مجالنا الثقافي، لإصلاح الذات والتثاقف مع الغير.

faltering transition: the conflict between tradition and modernity in Iran

الانتقال المتعثر: الصراع بين التقليد والحداثة في ايران