تفكيك التعصب وإمكانية تذويبه بقلم الدكتور عبد الغني عماد

تفكيك التعصب وإمكانية تذويبه…بقلم الدكتور عبد الغني عماد

لطالما كان التعصب والتطرف والعنف ظاهرة ملازمة لكل المجتمعات عموماً، يحتل موقعاً هامشياً في أغلب الأحيان، لكنه يتقدم ويتضخم ليكتسح المشهد في ظروف معيّنة. إنه ظاهرة كامنة لا تستيقظ إلاّ تحت وطأة ضغوط وعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، قد تأخذ شكل إنفجارات لكنها لا تلبث أن تعود إلى الكمون، وإلى احتلال موقعها الهامشي بانتهاء الضغوط التي تسببت بإيقاظها أساساً، متى وكيف ولماذا يحدث التعصب؟ متى وكيف ولماذا يبدأ بالانزياح والضمور؟ هذه الأسئلة وغيرها تستحق اليوم إعادة بحث وتفكير لكونها أصبحت موضوعاً عالمياً من جهة ولاتصالها بثقافة التسامح والاعتراف بالآخر التي هي جوهر ثقافة العصر.

لا تخلو بقعة في العالم من مظاهر التعصب والتطرف الديني أو العرقي أو السياسي. وإذا كان بعض الكتاب يركز على ربط فكرة التعصب والتطرف بالإسلام واعتباره ظاهرة ملازمة له كدين، فإن هذه الرؤية فيها الكثير من التحيز والعنصرية التي تتغافل عن حقيقة التعصب والتطرف الذي هو حالة ظرفية في تاريخ الشعوب والأمم، وأن تاريخ الشعوب والأمم كلها في هذا الكوكب شهد موجات من العنصرية والتطرف راح ضحيتها ملايين البشر، ولا تزال الحروب الصليبية، وآثار المرحلة الاستعمارية الكولونيالية، والمشروع الصهيوني ماثلة بالأذهان، بل حاضرة على الأرض تمثل أقصى حالات التعصب والقهر وإلغاء الآخر التي عرفها البشر، فهي بهذا تمثل التعصب والتطرف بشكله الحاد والنموذجي.

والواقع أنه منذ أن أصبح للإنسان تاريخ، ومشكلة الجماعات الأخرى كانت موضوعاً يستقطب اهتمامه، فالإنسان متماهياً في جماعة، يقوم بتصنيف سلوك “الآخر” ويعمم عليه أحكاماً ومواصفات تختزل هذا “الآخر” وتنمّطه فيما يشبه القوالب الجاهزة، عملية التنميط والإسقاط هذه، كنوع من النشاط التصنيفي يمارسها مختلف الناس بدرجة أو بأخرى، وهم عندما يمارسون ذلك لا يختصون في الحقيقة جماعة دون أخرى، بل هو نشاط يشمل مختلف الجماعات والأفراد أيضاً.

هذا النوع من النشاط يصبح أكثر ديناميكية، عندما يقع التنافس ويدّب الصراع، حينها يتحوّل “الآخر” إلى عدو وتتم أبلسته، وتلصق به كل أنواع السلوك الشرير وصوره، مقابل الخير الذي تحمله “الأنا”. هذا النوع من النشاط يمكن أن يكون فطرياً وذهنياً ويمارس كآلية دفاع ذاتية، لكنه يصبح مدمراً وقاتلاً حين يتم تنظيمه ومأسسته وتأطيره في استراتيجيات ثابتة للجماعة.

   لماذا تلجأ الشعوب إلى تنميط وتصنيف “الآخر”؟ لا شك أن هذا النوع من النشاط الذهني له وظيفة توافقية وتكيفية، فهو يختزل الوقت والجهد لأنه يقدم للفرد والمجتمعات أطراً عامة ومرجعيات ذهنية جاهزة للتعامل مع الآخرين والتنبؤ بسلوكهم وردود أفعالهم. لقد كوّن البشر أحكاماً وانطباعات عن الجماعات والثقافات الأخرى وقاموا بتنميطها ونمذجتها قبل أن يبدأ العلماء بهذا النوع من النشاط بشكل منهجي في ما عرف بعد ذلك بدراسات “الشخصية القومية” والاتنوسيكولوجيا والانتربولوجيا الثقافية وغيرها. في هذا السياق يمكن أن نفهم المعنى السوسيولوجي للتطرف والتعصب في سياقه ووظيفته داخل بنية الاجتماع الإنساني وآليات اشتغاله في دينامية الجماعة.

في هذا السياق ينشأ التعصب، وهو ظاهرة لا ينفرد بها شعب دون سواه، ولا طائفة من البشر دون غيرها، ولا أتباع دين أو معتقد سياسي محدد دون غيره. وجد التعصب والتطرف كظاهرة في الواقع عند كل الشعوب ومورس بأشكال مختلفة من قبل أفراد وجماعات على اختلاف أجناسها.

يكشف التعصب خضوع الفرد لسلطة تفسيرات شائعة وسهلة، مع ميل خفيّ إلى نبذ “الآخر” ورؤية العالم في إطار جامد من الأبيض إلى الأسود مع قابلية نفسية لإستخدام العنف في التعامل معه.

فالتعصب حالة خاصة من التصلب الفكري أو الجمود العقائدي والأساس فيه يرتكز على عدة عمليات ذهنية ونفسية مترابطة، حيث يقوم المتعصب بممارستها دون إدراك ومنها:

  • الحكم المسبق Pre-judging دون التحقق في أسباب هذا الحكم ومبرراته ودواعيه.
  • التعميم Generalization الذي يشمل الجماعات الأخرى منطلقاً في الغالب من سوء الحكم.
  • الإسقاط Projection ومن خلالها يعزو فيها الفرد دوافعه وأفكاره المشحونة بالخوف إلى الغير تهرباً من الاعتراف بها أو تخفيضاً لما يشعر به من الإدانة الذاتية. ويعد الإسقاط من أساليب التبرير والدفاع عن الذات.
  • التنميط Stereotype وهو في الغالب مكتسب وشائع في بعض الأوساط ومن خلاله يتم تصنيف للآخرين إعتماداً على جزء من الحقيقة لإبراز وتضخيم التشابه أو الإختلاف بين الفئات أو الجماعات الاجتماعية استناداً إلى سمات أو مواصفات محددة.

مالذي يؤدي الى تشكيل التعصب وبنائه ؟

في الواقع تسهم عدة عناصر في تشكيل مشاعر التعصب وتحوله بالتالي إلى موقف التطرف ومنها: التنافس، الأفكار الدينية، الخوف من الغرباء، التشدد القومي، وقد ينشأ التعصب عندما تخشى مجموعة ما أن يحرمها تنافس مجموعة أخرى من الهيبة والمزايا والقوة والسياسة أو الفرص الاقتصادية، وهو يؤدي على المستوى الفردي والجماعي إلى توليد سلوكيات تتصف بالرعونة والتطرف والبعد عن العقل والاستهانة بالآخرين ومعتقداتهم.

بعض التعريفات التي تناولت التعصب تركز على عاملين في غاية الأهمية:

العامل الأول: أنها اعتبرته موجهاً تجاه جماعات من الناس أو تجاه أفراد، وذلك بسبب عضويتهم في جماعة خاصة( طائفة، مذهب، اثنية قومية، جماعة عقائدية…)

والعامل الثاني: هو التركيز على الجانب السلبي ( ضد الآخر) لكن التعصب قد يأخذ المنحى الإيجابي في صورته التطبيقية تجاه الجماعة المرجعية. أنه يعد الشخص مسبقاً بما يجعله أكثر ميلاً للتفكير والإدراك والإحساس والتصرف بطرق غير موضوعية (محابية – منحازة – عدوانية..) نحو جماعة معينة أو نحو أعضائها.

إذن هو حُكم، أو رأي مسبق دون تقديم تبرير مناسب، إنه الحكم المعمم المسبق تجاه أفراد أو تجاه جنس-عرق، أو دين أو جماعة دينية أو تجاه أي دور اجتماعي آخر، إنه في الغالب يكون حكماً سلبياً غير عادل، أو حكماً خاطئاً تجاه جماعة معينة، وهو يتخذ شكل اتجاه يبدأ بكونه استعداد للاستجابة بالتأييد (المحاباة)، أو ( الكراهية ) بطريقة متسقة تجاه أفراد أو جماعات أو أشياء أو أفكار، لذلك فإن الاتجاه التعصبي عادة: يشير إلى موضوع (معرفي). ويشتمل على معتقدات منمطة ويميل إلى أن يكون أكثر من شيء عابر أو وقتي. ويشير في الغالب على استعداد للتصرف بطريقة غير موضوعية تجاه موضوع معين.

ما الذي يدفع جماعات أو أفراداً إلى أن يصبحوا متعصبين ويعاملوا الآخرين على أساس سلوك تمييزي عنصري؟

ثمة عوامل موضوعية عديدة تساهم في خلق ظروف اجتماعية ونفسية مناسبة تعمل على انتشار التعصب في بعض المجتمعات دون الأخرى منها: أن التعصب ينشأ ويزداد كلما ارتفعت حدة المنافسة بين مكوّنات المجتمع الأساسية، فوجود جماعات تنتمي إلى أعراق مختلفة، أو أديان مختلفة، أو ثقافات مختلفة يعتبر أرضاً خصبة لنمو التعصب. كذلك يلعب الجهل وضعف الإتصال بين الجماعات المختلفة في المجتمع الواحد دوراً في ازدياد التعصب، وقد أثبتت العديد من الدراسات أنه كلما زاد التواصل والتعارف قلً التعصب. وتعتبر المنافسة للحصول على المراكز وفرص العمل وخاصة في المجتمعات التي تغيب فيها أنظمة عادلة للكفاءة من أسباب زيادة التعصب.

ليست فقط العوامل السابقة هي المسؤولة عن تقوية التعصب وتعزيزه؛ بل هناك عوامل أخرى لا نستطيع إغفال دورها أو تجاهلها.. منها مثلاً العوامل الثقافية مثل وسائل الإعلام المختلفة (صحافة، إذاعة، وتلفزة) وأساليب التنشئة الاجتماعة والمناهج التربوية كلها قد تساعد في تشكيل التعصب عند الأطفال والمراهقين على حد سواء.

   إذا كانت كل هذه العوامل مسؤولة عن تكون ظاهرة التعصب، فهل يمكن القضاء عليها؟ أم أن التعصب ظاهرة ملازمة للاجتماع الإنساني؟ هل يمكن في الواقع الحد من نموه وتفاقم أخطاره؟ ما هي الخبرة العالمية في مواجهة هذه الظاهرة ؟ وكيف نواجه التعصب في عالمنا العربي؟

هناك إجابة تقليدية في العالم العربي تتمثل في استخدام الوسائل الأمنية والقمعية والسياسية خاصة عندما يتحول التعصب الى تطرف وسلوكيات عنيفة، وهي وسائل ثبت عقمها. فكل الوسائل الأمنية والسياسية يمكن أن تكون فاعلة على المدى القصير، إلا أنها على المدى الطويل لا تنجح في استئصال العلًة الأساسية المنتجة لهذه الظاهرة وخاصة المتمثلة بالتعصب الديني والتي عادة ما تكون متصلة بجذور ثقافية من خلال تأويلات مغالية للنصوص، وبجذور اجتماعية ناتجة عن ارتفاع معدلات البطالة والأمية وفشل مشاريع التنمية وغيرها من المسائل المتعلقة بغياب الحريات والعدالة والمساواة بين المواطنين.

وفي تقديري أن هذه الحلول لا تعالج اختراق التعصب لنظام التربية والتعليم بكل مؤسساته. وهو اختراق يساعده أن التعليم في بلادنا لا يزال في غالبه يقوم على التلقين وليس على الفهم والمساءلة والحوار بين الأفكار. أي أنه يقوم بصياغة العقل الاتباعي لا العقل النقدي، وهذا ما تقوم بترسيخه بصورة مباشرة بعض دولنا، لأن العقل الاتباعي يتكيف مع مفاهيم الطاعة والانقياد، أما العقل النقدي فمتمرد ومتسائل بطبعه.

لا شكّ أن المؤسسة التربوية العربية قد التقطت بشكل أو بآخر جرثومة “التعصّب” وآفة “التطرّف” الديني، وهذا معناه أن المؤسسة التربوية بدلاً من أن تساعد المجتمع العربي على المواجهة العقلانية فإنها أضافت إلى مشكلاته تحديات جديدة.

فالتعصّب ينتقل من جيل إلى جيل، ومن الكبار إلى الصغار، إنه أشبه ببناء أو هرم يتم تشييده حجراً فوق حجر، إذ يتعلّم كثير من الأبناء التعصّب من آبائهم وأساتذتهم. وتجد قيم التعصّب تعزيزاً لها في إطار القوانين والمؤسسات والعادات، فالتعصّب يتأسس في الغالب من تصورات مسبقة تأخذ طابع النمذجة حيث يتمّ تعميمها على كل أفراد الجماعة موضوع التصنيف، يكتسبها الطفل خلال تنشئته المبكرة، ومعها يصبح الآخر متّصفاً بالغدر والخيانة والكفر والمذلّة الخسّة واللعنة. في هذا المجال الكراهية تصبح احد ابرز منتجات التطرف والتعصب.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: كيف يمكن للمؤسسة التربوية العربية أن تعززّ قيم التسامح في مواجهة التعصّب والتطرف في مجتمعات لم تتعزز فيها تقاليد الديمقراطية بعد، وخاصة تقاليد الاعتراف بالرأي الآخر والتمثيل الشعبي ومشاركة المجتمع المدني، حيث تغيب عملياً مبادئ حقوق الإنسان، بل والأطر التنظيمية الناظمة للتعددية السياسية في المجتمعات العربية.

المشكلة الأخرى تتمثل في ازدواجية نظم التعليم، فضلاً عن المحتوى والمناهج، بحيث نجد تعليماً مدنياً في جانب وتعليماً دينياً خالصاً في جانب آخر، لا تشرف عليه المؤسسات الرسمية، بل بدأ يتخصص شيئاً فشيئاً، بحيث أصبح للمذاهب والجماعات والأحزاب الدينية مدارسها الخاصة، ولنا أن نتصور في ظلها أي نوع من التعليم والثقافة الدينية يجري ترويجها.

يحتاج التطرّف والتعصّب إلى بيئة حاضنة يعيش فيها ويعتاش منها، وقد كان الحرمان والفقر وفشل مشاريع التنمية من أبرز العناصر والعوامل المساعدة على نمو التعصّب والتطرّف. وهذا يعني أن محاربة هذه الظاهرة ومكافحتها ليس عملاً أمنياً بقدر ما يجب أن يكون فعلاً تنموياً مستمراً على المستوى البشري والعمراني والثقافي والتربوي.

فالتطرّف والتعصّب ظاهرتان مرضيتان وأفضل علاج لهما هو الوقاية الصحيحة. والوقاية الصحيحة يجب أن تركز على التعامل العقلاني الذي يستهدف تصحيح الإختلالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وإشاعة الفكر النقدي والمشاركة والشورى والديمقراطية في كافة مجالات الحياة وبدءاً بالمؤسسة التربوية.

فالتعصب بوصفه ظاهرة بشرية واجتماعية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقات بين الجماعات والأفراد، يمكن أن يعالج بطرق وأساليب متعددة مثل الاتصال المباشر بين الجماعات، والبرامج التربوية والتنموية قبل أن يتفاقم سلوكياً ويتحول إلى العنف الذي أصبح آفة كبرى في عالمنا.   

نشرت في مجلة العربي( العدد719 – اكتوبر 2018)

 

أضف تعليق