قراءة موسعة في كتاب “سوسيولوجيا الهويةجدليات الوعي والتفكّك وإعادة البناء” للدكتور عبد الغني عماد

قراءة موسعة في كتاب “سوسيولوجيا الهويةجدليات الوعي والتفكّك وإعادة البناء” للدكتور عبد الغني عماد

بقلم بول شاوول نشرت على اربع حلقات في جريدة المستقبل
صدر عن «مركز دراسات الوحدة العربية»كتاب تحليلي، يتوغل في مسائل الهوية، وطبقاتها، وأجوافها، وميادينها بعنوان «سوسيولوجيا الهوية، جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء» للدكتور عبد الغني عماد (أستاذ وعميد سابق في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، وصدر له نحو 38 كتاباً منها «حاكمية الله وسلطان الفقيه، قراءة في خطاب الحركات الاسلامية المعاصرة» و«ثقافة العنف في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية»، “اسلاميو لبنان: الوحدة والاختلاف على أرض المستحيل”.

يناقش هذا الكتاب المعزز بالفهارس والمصادر، والمراجع، وبكتب أكاديمية حية «إشكاليات سوسيولوجية الهوية والمقاربات المختلفة حولها، التي أصبحت اليوم تخصصاً علمياً وأكاديمياً في الكثير من الجامعات، ويطرح رؤيته لما آلت إليه الهوية والثقافة في عالم يزداد تعولماً وتفككاً، وهو يتجلى في أكثر من مكان، وعلى نحو كارثي على الوطن العربي حيث انفجرت عصبيات، وتضخمت هويات طائفية ومذهبية واثنية وتحولت ما يشبه«الوعي القطيعي»، حتى بدأت تتحول سياجاً لا يسمح للعقل بأن يخترقها ولـ«الجماعة»بأن تخرج منها”.

هنا الجزء الأول، من المقدمة التي تعرض طرق معالجة هذه القضية وظواهرها وأنماطها، وضعها الدكتور عبد الغني عماد.

ب.ش

عندما ينحصر مفهوم الهوية الثقافية في الإرث الثقاقي يؤدي ذلك بالضرورة الى إمكان بناء صور بيانية للسمات والأنماط والوظائف والتصرفات الفردية والجماعية التي يمكن اعتبارها لصيقة بحاملي الهوية بصورة نهائية. ذلك أن بعض الخاصيات الثقافية، والمختلفة من بيئة ثقافية الى أخرى، يمكنها أن تنتقل كإرث الى الفاعلين الاجتماعيين. فالسيرورات الأولية لعملية إدماج الفرد في الثقافة وتكيفه الاجتماعي تكون ضامنة لكسب هوية موروثة، وهي بدورها تضمن الحفاظ على الثقافة ونقلها الى الأجيال اللاحقة بحيث تتحول الهوية بسهولة الى مماثلة تعمل بنمط البصمة شبه وراثية. فهل نحن فعلاً أمام مسار محدد لتشكل الهوية (الضبط الاجتماعي، التمثل، الاندماج..) بما يجعلها كافية للتنبؤ أو التوقع بمسارات وسياقات الفعل الاجتماعي والسلوك الفردي؟ واذا كنا أمام مسار سوسيولوجي محدد لتشكلها فهل نحن والحال هذه أمام مسار مشابه لتفككها؟ وهل تضع هذه المقاربة الهويات الثقافية في أنماط حتمية يسودها نظام مغلق؟

الإجابة الوظيفية البسيطة تقودنا الى نتيجة مهمة وهي أن الفعل الانساني ليس عشوائياً وهو يستجيب لنوع من النظام في أي مجتمع، لأنه ببساطة يخضع لديناميات الضبط والتنظيم، لكن هذه الاجابة التبسيطية تطرح اشكالية الحرية الإنسانية كما تطرح إشكالية التجديد والإبداع والتغيير وهذا يقود لمنطق يصبح معه التطبيع والامتثال قانون الحياة ونظام الطبيعة الحتمي، وليس الأمر في الواقع الاجتماعي كذلك، ما يعني أننا بحاجة الى إجابة مركّبة وجدلية يمكنها أن تقدم تفسيراً علمياً أكثر دقة.

في الواقع لا يمكن اختزال حركة الثقافة والمجتمعات بسهولة الى مماثلة بسيطة، ذلك أنها ليست جامدة أو ميكانيكية، إذ تعترضها صراعات التغيير وديناميته، وحصيلة تلك الصراعات بالتالي قد تكون «توفيقية» أو «تركيبية» حسب طبيعة المجتمعات والجماعات، ما يجعل النتيجة العامة دينامية وتفاعلية. وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية ينظر الى الفرد بوصفه فاعلاً اجتماعياً يؤثر ويتأثر، يفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محددة. يتعلق الأمر إذاً بفهم طبيعة وأنماط الفعل وردود الفعل التي يسهم الفرد، كفاعل اجتماعي في صناعتها وتعديلها. وعليه يتركز التحليل في فهم الطريقة أو الاستراتيجية التي ينتج بها الأفراد، خيارات «الانتماء» و«الولاء» ويقومون بتأكيدها. فانتماء الأفراد، كفاعلين اجتماعيين الى مختلف التشكيلات الاجتماعية لم يعد يُعد كمعطى طبيعي فقط، ذلك أن الأفراد يشاركون الى حد ما في تكوين حالات انتمائهم الاجتماعي، فيبنون ويوزعون المعاني التي تؤسس تماثلهم المشترك، والتي يظهرون من خلالها الفروق البيفردية التي هي أساس التفاعلات الاجتماعية والثقافية.

مع هذا التصور الدينامي للثقافة تدرك الهوية بحد ذاتها كديالكتيك إنساني واجتماعي، فهي في ضوء هذه المقاربة سيرورة تكوّن نسقاً ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع آخرين بالوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه، الموروث والسائد، حيث يتطورون معاً. وعليه تتحقق الهوية كسيرورة جدلية بالمعنى التكاملي للأضداد، إذ تجيز بروز الفروق الفردية (تميّز الذات) ومطابقة الفرد مع الجماعة، تلك التي ينتمي إليها و/أو تلك التي يرجع إليها. في ضوء هذه المقاربة يمكن فهم وكيف يصبح الفرد عاملاً في بناء ثقافته وفي بناء هويته الذاتية في هذا الوقت، وكيف يكوّن هؤلاء أنظمة ثقافية جماعية تتخطاهم كأفراد من خلال قدرتها على إعادة إنتاج نفسها.

الثقافة بالضرورة هي نتاج إنساني يتصل بالفاعلين الاجتماعيين وتصرفاتهم فيما بينهم. ولا يمكن الخلط بين ما فيها من جوهر متعالٍ مع جهة وسببي تفاعلي من جهة أخرى، وبالتالي فإن توضيح الروابط الجدلية بين الأفراد والجماعات خاضع بدقة للشروط الموضوعية التي تتحقق بها هذه الديناميات التفاعلية. بهذا تكون الدراسات السوسيولوجية المقارنة ذات قيمة معرفية وعلمية كبيرة، فمن خلالها يمكن ملاحظة آثار السياقات والمتغيرات التي تتدخل في تحديد مواقف الأفراد والجماعات وسلوكياتهم الثقافية. كذلك فإن تحليل ظروف التفاعلات والاتصالات البين – ثقافية بين الأفراد والجماعات يكشف غالباً عن تباين الرموز الثقافية ونسبية الحقائق، التي سبق اعتبارها طبيعية وبديهية، بل وحتى عالمية، وهي حقائق غالباً ما تبقى غير ظاهرة كلما كانت مألوفة بالنسبة الى أولئك الذين يعيشونها يومياً. وعليه يشتغل ديالكتيك الهوية وتظهر حركيته بوضوح في ظروف الاحتكاكات الثقافية، التي ازدادت فعاليتها وتعمقت مع اجتياح حركة التدفق الثقافي المتعولم المجتمعات المحلية، وبخاصة أن هذه الاحتكاكات لم تعد متأتية من مصدر خارجي صافٍ، إذ يظهر تنوعها بوضوح في كل مجتمع من مجتمعاتنا الحديثة المعقدة اليوم، حيث يتجاور ويتفاعل التقليدي والحديث في البنية المجتمعية الواحدة وهو ما يولد الكثير من الديناميات والصراعات.

تقودنا الإجابة الجدلية المركّبة الى ملاحظة التناقضات الواقعة في كل مجتمع، حيث تتضح الفروق بسهولة بين النماذج الثقافية الموروثة وبين السلوك الواقعي، بين الهوية الثقافية وبنيتها «المعرفية المعيارية» من جهة وبين الفعل الاجتماعي بوصفه حصيلة تفاوض ورهانات، وهذه عملياً نادراً ما تتطابق بالسهولة أو بالكمال اللازم، فدائماً هناك من يستوحي المثل من النماذج، وهناك من يقيم سلّماً من المعايير يبتدئ من النماذج التي تحتل المثال الأسمى الى النماذج الأكثر «واقعية» وأكثر سهولة في التطبيق. لذلك لا تستدعي الهوية الثقافية ونماذجها السائدة الدرجة نفسها من الامتثال والتوافق، فمنها يصنف في دائرة (الإلزامي أو الاختياري، أو الحرام أو الحلال، أو العيب أو المقدّس…)، وتتفاوت تبعاً لذلك المواقف ودرجات التباين وطرائق التعبير عنها، من مجتمع لآخر، ومن هذا التفاوت والتباين يولد التنافس والصراع.

في مثل هذه المقاربة لا يمكن دراسة تشكّل الهوية وحركتها وانبنائها من خلال مقاربة سكونية، أو تصور متجانس يمكن أن يكون قابلاً للجدل والتأويل. فالفاعل الاجتماعي تواجهه بالضرورة مسألة «الغيرية» في صراعه مع متطلبات عملية تشكل الهوية. يجب إدراج هذه العلاقة بين الهوية والمغايرة بالتحديد ضمن السيرورات الاجتماعية – الإدراكية التي تغذي الهوية. فالموقف الاجتماعي ذاته لا يعاش بالطريق نفسها عند فاعلين اجتماعيين متحدرين من مجموعات إثنية أو طائفية أو مذهبية متباينة من حيث الحجم الديمغرافي أو الدور في النظام الاجتماعي العريض. فالمعايير والقيم، كما ردود الأفعال، غالباً ما تكون في المجتمعات التقليدية كما في المجتمعات الخاضعة لأنظمة تسلطية مختلفة تماماً عما هي عليه في المجتمعات الحديثة والأنظمة الديمقراطية، ورهانات حامليها ليست متجانسة أو متشابهة، وصراعات المصالح تتشابك مع صراعات القيم لتعقيد سيناريو لا يمكن اختزاله بتصور محدد في المجتمعات المتنوعة.

لكن جدلية التنافس والصراع لا تركن لحدود، خاصة عندما تستشعر الهوية مكامن الخطر، فتتحول بعض مكوناتها الى معطى أيديولوجي ضمن سياق الهوية الثقافية يتمثل بتيارات وقوى محافظة (سلفية وأصولية ويمينية..). وهكذا تصبح حركة الأفكار والهويات في تحولها الى أيديولوجيا، منظومة فكرية لها تنظيمها الذاتي ودفاعها الذاتي، الذي يتسم بصفة توليدية تجعله قادراً على إعادة إنتاجها وحمايتها. يشرح إدغار موران الأمر على هذه الصورة: كل منظومة فكرية هي مغلقة ومفتوحة في آن، مغلقة بمعنى أنها تحمي نفسها ومفتوحة بمعنى أنها تغذي التأكيدات لصالحها. وهي على نوعين منظومات يتصدر فيها الانفتاح قبل الانغلاق (وهو ما ينطبق على النظريات)، ونوع آخر يتصدر فيه الانغلاق ويطلق عليه المذاهب (الأيديولوجيات)، لكنه يشير الى أن كلا النوعين يحتوي على نواة صلبة من مبادئ خفية تمثل «براديغمات» تحدد قواعد تنظيم الأفكار، وتحتوي على المعايير التي تشرعن حقيقة المنظومة وتختار المعطيات الأساسية التي تستند إليها، وتحدد بالتالي استبعاد وجهل ما يتعارض مع حقيقتها، ويفلت بالتالي من معاييرها ما يخالفها ويلغي ما بدا لها، انطلاقاً من بديهياتها ومبادئها ومسلّماتها، ما يعني بوضوح أن كل منظومة فكرية تحتوي في نواتها على منطقة عمياء.

وإذا كانت المنظومة الفكرية بصيغتها الهوياتية الثقافية العامة، يتصدر فيها الانفتاح، وتتقبل النقد الخارجي وفق القواعد التي تحددها، فإن الأيديولوجيا كمنظومة فكرية ترفض المعارضة وتحتاج الى أن تتغذى بالتحققات والتأكيدات وتختار العناصر والأحداث المؤيدة، فتدقق فيها بعناية وتُخضعها لتصفية لا تبقي منها إلا القابل للاستيعاب. وربما تميل كل المنظومات الفكرية الى أن تتغذى بالرغائب والتطلعات والمخاوف والتهوسات لدى البشر، لكن الأيديولوجيا مشدودة دائماً إلى اليقين والرغبة في المطلق والبحث عن الكلمة الفصل في نصوص الآباء المؤسسين للمذهب ا لايديولوجي الذي لا يلبث أن يتحول إلى نصوص دوغمائية خالية من الروح، يغلب عليها التحجر.

وعليه فإن تشكل الهوية هو حصيلة تفاعلات وصراعات اجتماعية، ولأن الجماعات لا تملك قوة التماثل والفعالية نفسها، ولأن قوة التماثل والفعالية هذه ترتبط بالوضعية التي تحتلها الجماعة في منظومة العلاقات التي تربطها بالمجموعات الاخرى وفي ما بينها من جهة، وبين السلطة من جهة أخرى، فإن القدرة على تصنيف الذات وتصنيف الآخر ليست مطلقة ونهائية. ولبيار بورديو في هذا المجال مقالة عنوانها «الهوية والتصور» يقول فيها إن من يملك السلطة الشرعية، هو القادر على فرض تعريفه لنفسه ولغيره. يعني هذا ان مجمل تعريفات الهوية التي يكتسبها الفرد، وبالتالي الجماعة، يعمل كمنظومة تصنيف تحدد المواقع المتتالية للجماعات والأفراد. والسلطة الشرعية تملك القوة الرمزية لجعل الآخرين يعترفون بمقولاتها وتعريفها، من هنا قدرتها على تشكيل الجماعات وتفكيكها..
جريدة المستقبل الجمعة 23 حزيران 2017 – العدد 6103 ص 13

قراءة في كتاب “سوسيولوجيا الهوية”للدكتور عبد الغني عماد جدليات الوعي والتفكّك وإعادة البناء (2)

وبصفة أعم يمكن لمفهوم الاستراتيجية أن يفسر تنوعات الهوية وهو ما يمكن تسميته انتقالات الهوية، وهذا المفهوم يبين نسبية ظواهر التحقق، حيث تبنى الهوية وتتفكك ويعاد بناؤها تبعاً للحالات، انها دائمة الحركة، وكل تغير اجتماعي يقودها الى اعادة صياغة نفسها على نحو مختلف.

يناقش إرنست غيلنر في أن الهويات القومية في الواقع ليست أشياء تولد معنا، وانما هي تتشكل وتتحول ضمن مسار معقد، ومرتبط بالعلاقة بعمليات التمثل (Representation). اننا ندرك فقط ماذا يعني ان تكون عربياً أو مسلماً أو انكليزياً بسبب الطريقة التي نتمثل بها هذه الهويات الثقافية بوصفها نظاماً من المعاني. يستتبع ذلك ان الأمة ليست كياناً سياسياً فقط، انما هي أيضاً شيء ينتج معاني، أي انها نظام من التمثل الثقافي. ما يعني ان الناس ليسوا فقط مواطنين قانونيين في أمة؛ بل انهم يتشاركون في فكرة الامة كما هي متمثلة في الثقافة القومية. الأمة هي جماعة رمزية، وهذا هو الامر الذي يفسر سلطتها في توليد حس الهوية والولاء والانتماء. يذهب بندكت أندرسن إلى أبعد من ذلك وبروح انتروبولوجية يقول في بحثه الشهير ان الامة «جماعة سياسية متخيلة، حيث يشمل التخيل انها محددة وسيدة أصلاً». ومع ذلك فهذه الجماعة المتخيلة هي ما مكّن ملايين كثيرة من البشر، خلال القرنين الماضيين، لا من أن تقتُل وحسب، بل من أن تموت راضية أيضاً في سبيل هذه التخيلات المحددة. الجماعة المتخيلة عنده ليست جماعة خيالية، بل حقيقية وواقعية، لأن فعلها وتأثيرها واقعي ويجري تخيله بأدوات واقعية، فالناس لا يتخيلون شيئاً من العدم، فالمتخيل يتشكل بهذه الادوات من عناصر قائمة بالفعل (التمايز اللغوي، الديني، العرقي، خصائص الاقليم وغيره على سبيل المثال..)، وهو يذهب في هذا المجال إلى التمييز بين المتخيل والخيالي منتقداً مقاربة غيلنر التي تدفع نحو تحولها من «اختراع» إلى «تلفيق» وزيف، فيقظة الأمم على وعي ذاتها عنده لا تعني ان القومية تخترع الامم حيث هي هوية لا وجود لها.

هذه المواضيع وما تضمنته من اشكاليات ومراجعات ومناقشات تشكل محور فصول هذا الكتاب الذي بني على أحد عشر فصلاً. في الفصلين الأول والثاني جدليات الهوية والثقافة والوعي بدءاً بالمقاربة الماركسية والتأصيل الايديولوجي بحثاً عن هوية عالمية جديدة، وصولاً إلى التفكيك السوسيومعرفي والاتجاه النقدي. وفيه مناقشة للمداخل التأسيسية لمفاهيم الهوية والوعي على المستوى المعرفي ومن منظور الماكروسوسيولوجي، كما يجادل في المقاربات التحليلية على مستوى الميكروسوسيولوجي في عملية حفر معرفي شملت مفهوم «الوعي الجمعي» مع إميل دوركهايم، وجدليات الايديولوجيا والطوبى والأفكار كمنظومات مع كارل مانهايم وصولاً إلى سيرورات الوعي والهوية والانبناء وفق منطق الهابيتوس مع بيار بورديو.

وقد شكل موضوع الثقافة والديناميات البانية للهوية محور الفصل الثالث الذي ناقش دور اللغة من جهة، ومفهوم الشخصية الأساسية من جهة ثانية، كمدخل لفهم سيرورات الثقافة مع الاتجاه الذي دشّنه سابير وعمقته أعمال بندكت وميد ولينتون في مقاربة مختلفة عما ساد مع أعمال مالينوفسكي الوظيفية بوصفه الثقافة استجابة للحاجات، واستطراداً مع مقابل راد كليف براون البنيوية من جهة اخرى ومقاربة بأعمال وأبحاث بواس وهرسكوفيتش حول الخصوصية التاريخية في الثقافة وعمليات المثاقفة وعلاقتها ببناء الهوية.

أما موضوع الدين والتدين والأقليات فقد وضع في الفصل الرابع قيد الفحص والتحليل الموسع بوصفه منتجاً لديناميات القلق واليقين في قلب الجماعات والمجتمعات من جهة، وللدور والمحمول الرمزي الذي ينتجه ويحركه في عمليات الانبناء والتشكل والتفكك الهوياتي من جهة اخرى. يكشف هذا المحور عن الديناميات الفاعلة في حركية اليدين والتدين وعلاقتها بالطقوس والشعائر المغذية للمخيال الهوياتي، وبخاصة على مستوى الجماعات والأقليات، ويناقش في الترابطات السوسيولوجية بين الدين والثقافة والهوية مستفيداً من أبرز الأدبيات السوسيولوجية في هذا المجال واضعاً محصولها على مشرحة النقد والتفكيك في محاولة لتفسير ظاهرة الأقليات وما تنتجه من ديناميات وأنماط من عمليات الاندماج والتفكك، أو الانقسام والتوحد، والائتلاف والاختلاف، وما يرافق ذلك من أعراض سوسيولوجية وثقافية.

في المقابل يقدم الفصل الخامس اطاراً نظرياً يناقش جدلية الوعي والمعرفة والفعل، وبالتالي البراديغم المعرفي المحرك لعمليات التوليد والاقصاء، والولاء والانتماء الهوياتي. في حين يحفر الفصل السادس في المجال الهوياتي واشكاليات التصنيف والانتماء، والاستراتيجيات المتولدة في هذا التحرك، مناقشاً آليات صعود الهويات واستراتيجيات انتاج المعنى ومفهوم «الجماعات المتخيلة» بوصفها حقيقة متعينة من خلال اعادة تأصيل مفهوم «السردية التاريخية» ودورها في بناء «الذاكرة الجمعية» الهوياتية.

يتركز التحليل في الفصل السابع على التداعيات التي أصابت الثقافة بوصفها بانية أشكال الهوية ومحتوياتها ويناقش في النماذج التفسيرية الجديدة الكاشفة لمصادر ومسارات حراك الهويات على تخوم العولمة، بدءاً بالمفهوم الدينامي مع ستيوارت هول، والهوية كنتاج اجتماعي لعلاقات القوة مع ريتشارد جينكينز، وانقلاب العالم وتغير صورته مع برتراند بادي. ويتابع الفصل الثامن هذا المحور على مستوى المايكرو، فيحفر في المجال التواصلي وآليات بناء وتفكك المجال العام «الهابرماسي» في ضوء صناعة الإعلام والإنفوميديا وفضاء التدفقات والمجتمع الشبكي، وبالتالي عمليات تشكل الجماعة والفرد وإعادة تعريف كل منهما في ضوء أو من خلال «التشبيك» وتداعياته.

يذهب الفصل التاسع إلى تفكيك منطق التعصب والتطرف الهوياتي، فيتعمق بتحليل دينامية الجماعة و«الآخر» وعمليات الاستثمار في الكراهية، مفككاً العقلية الدوغمائية القائمة على وهم امتلاك الحقيقة المطلقة من خلال دراسة تجليات التعصب الهوياتي كعمليات تنميط واعية ولا واعية، متابعاً البحث في هذا المحور في الفصل العاشر الذي يطرح اشكالية الاندماج الاجتماعي وصناعة «الهويات الصلبة» والمقاربات التفسيرية المختلفة في مجال العلوم الاجتماعية.

يقدم الفصل الحادي عشر مقاربة سوسيولوجية لفهم ودراسة الهوية العربية في مساراتها المعاصرة، بوصفها هوية متنازع عليها من جهة، وتشهد تحولات دينامية في سيرورات نحو التشكل والتفكك وإعادة البناء من جهة أخرى، وهو إذ ينطلق في مقاربته من القول بأن «الأفكار»، وإن كانت من أكثر المنتجات القابلة للانتشار، إلا أنها ليست المعطى الوحيد لتشكيل الهويات. صحيح ان الهويات تحتاج إلى أفكار حية ولا تعيش من دونها، وقد تلجأ إلى القديم منها أو الميت، لتبث فيه الحياة من جديد، لكن هذا لا يكفي، فهي تحتاج دائماً إلى مغذيات وحواضن اجتماعية واقتصادية لكي تكتسب طاقة سياسية محركة، وتتحول إلى قوة تغيير حقيقية، وبالتالي، فإن الوعي بـ«الهوية» لا يأتي بالمطلق من خارج المجتمع أو من خارج سياق التاريخ، فهي لا تهبط من كوكب آخر ولا تأتي من خارج الزمن. فالهوية حركية مستمرة في التاريخ، تكتسب المعنى والمضمون كتجربة انسانية خاضعة لصيرورة العيش ولديناميات الصراع وتحديات الواقع. إنها معطيات وعوامل تمنح الإنسان بصفته الفردية، والمجتمع كاطار تفاعلي للجماعة، الشعور بالمعنى والوجود والانتماء والمصير المشترك، بما يضمن استمرارية الجماعة ويحمي كيانها. وحين يضعف هذا الشعور ويسير في طريق الاضمحلال والضمور، تواجه الجماعة مصير التفكك والانقسام نحو العصبيات والانتماءات الاولية. إن شيئاً من هذا أصاب الهوية العربية في الصميم، الأمر الذي يطرح عدداً من التساؤلات حول الاسباب التي أدت إلى ذلك؟ وهل هي أسباب عرضية أم جوهرية؟ هل هي أسباب موضوعية تتعلق بالبنية الثقافية والاجتماعية العربية بحد ذاتها أم داخلتها واختلطت معها أسباب وعوامل خارجية، دفعت بالوعي العربي نحو منحدر هوياتي طائفي ومذهبي وإثني وقبلي، يعود إلى إحياء كيانات ما قبل الدولة الوطنية؟

تلك هي بعض الأسئلة والاشكاليات التي حاول هذا الكتاب مناقشتها واخضاعها للتحليل والقراءة، ضمن مشروع بحثي يتخطى تأصيل المفاهيم التحليلية في الأدبيات السوسيولوجية واستعراض المقاربات النظرية المتعددة في هذا المجال، ويطمح نحو توظيف المناسب منها واستخدامه كأدوات منهجية وتفسيرية تساعدنا على التبصر في أحوالنا ومصائرنا.
جريدة المستقبل الأربعاء 28 حزيران 2017 – العدد 6106 – صفحة13

قراءة في كتاب “سوسيولوجيا الهوية” للدكتور عبد الغني عماد الهوية العربية .. إشكالية التشكّل والتفكّك (3)
صدر «سوسيولوجيا الهوية، جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء» للدكتور عبد الغني عماد (عن «مركز دراسات الوحدة العربية» (بيروت)، وهو بحث مستفيض، ومعمّق، وتفصيلي، ومفرّع، يبحث فيه سؤال الهوية والثقافة.

ويناقش إشكاليات سوسيولوجيا الهوية والمقاربات المختلفة حولها، والتي أصبحت اليوم تخصصاً أكاديمياً في كثير من الجامعات، ليطرح رؤيته لما آلت إليه الهوية والثقافة في عالم يزداد تعولماً وتفككاً، وهو ما تجلى في أكثر من مكان، وعلى نحو كارثي في الوطن العربي حيث انفجرت عصبيات، وتورّمت وتضخّمت هويات مذهبية وإثنية، وتحوّلت الى ما يشبه «الوعي القطيعي»، لتتحول الى سياج لا يسمح للعقل باختراقها، ولـ»الجماعة» بأن تخرج من طوقه.

د. عبد الغني عماد، أستاذ وعميد سابق في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، صدر له نحو 38 مؤلفاً منها «حاكمية الله وسلطان الفقيه» (1998 و2005)، «ثقافة العنف: في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية» (2001)، «صناعة الإرهاب» (2003)، «الحركات الإسلامية في الوطن العربي» (2013)، «الهوية والمغايرة، السلفية والسلفيّون في لبنان» (2015).

ونفهم من خلال هذه الأبحاث والكتب الموجّهة نحو القضايا والإشكاليات، وحتى المعضلات، أنّ الباحث، يتمتع بثقافة سياسية وفكرية وسوسيولوجية وافية، تمحضه ثقة في تناول مثل هذه المواضيع الشائكة، والمركّبة، والمتداخلة والمتناقضة.
وفي فصول كتابه هذه نلمس هذه المراجعات التحيليلة والنقدية، ليس من منظور علمي حيادي موضوعي فقط، وإنما في اعتبار كل هذه المشكلات جزءاً من الانهيارات العربية، والأشكال القومية – الإيديولوجية – وبنيات الوحدة، والشرذمة، والتفكك، والانفجارات المدويّة لغرائز، ومكنونات، تحت سقوف ما يُسمى الهويات الدينية، أو الإثنية، أو القبلية، أو المذهبية.

كتاب جدير بأن يُقرأ وبإمعان كمرجع مهم.

هنا ننشر حلقتين من الكتاب من الفصل الحادي عشر، الهوية العربية، إشكالية التشكل والتفكك.

ب.ش

لا تستمد الهوية ماهيتها من ذاتها فقط. بل من المفارق لها، أي مما ينفصل عنها وليس فقط مما يتصل بها. لأنه ببساطة لا معنى لمطلب الهوية بمعزل عن التنوع والتميز والاختلاف المتمثلين بالآخر. وحين كتب خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي النصوص الإصلاحية التأسيسية الأولى في الفكر الإسلامي، ووضع جمال الدين الأفغاني أسس هذا التيار مطلقاً مشروعاً تحررياً عقلانياً وداعياً إلى الجامعة الإسلامية؟ وحين دشّن تلميذه الإمام محمد عبده معركة الإصلاح الديني وأطلق الكواكبي معركة «القضاء على الاستبداد وثقافته» في كتابه الفريد طبائع الاستبداد. هذا فضلاً عما مثلته مجلة المنار ورشيد رضا من إضافة وإغناء لهذا التيار الإصلاحي؟ حين كتب هؤلاء نصوصهم منذ أواسط ‏ القرن التاسع عشر وقبله بقليل. كان التاريخ في هذه المنطقة يتحرك على وقع الصراع مع «الآخر» الطامع باقتسام تركة الإمبراطورية العثمانية التي أصابها الضعف والتراجع.

وحين كتب حسن البنا نصوصه التأسيسية مطلقاً الحركة الإسلامية المعاصرة، لم يكتب ما كتبه مفصولاً عن أزمنة ومسارات ذلك الزمن الذي مثل فيه إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924 صدمة كبرى، اعتبرها هو وغيرها طعنة خطيرة أصابت الهوية الإسلامية و»أخطر حدث في حياة الإسلام والمسلمين، فللمرة الأولى سقطت الخلافة بعد أن اتصلت حلقاتها ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن.

كذلك حين كتب ساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشيل عفلق نصوصهم التأسيسية في الفكر القومي العربي، لم يكن ما كتبوه بطبيعة الحال مفصولاً عن سياق العصر الذي عاشوه وتحدياته الهائلة التي أصابت بنية مجتمعاتنا في الصميم. والمتمعن في تلك النصوص القومية وما تلاها على العموم يجد أنها شهدت تطوراً مركّباً على أكثر من صعيد وفي أكثر من مرحلة؛ فالمشهد العثماني حينها، قدّم الإرهاصات التبشيرية الأولى بكل محمولاته القومية الطورانية التي انتهجت سياسة التتريك ونشأت فيها أحزاب تتحدث عن الأمة والقومية ببعدها التركي العلماني. ولا يمكن قراءة النصوص التأسيسية للفكر القومي العربي بعيداً عما تبع ذلك من استعمار وانتداب واستيطان صهيوني ولّد الأبعاد التحررية والوطنية والثورية، وما تلاها في مرحلة الاستقلال الوطني والدولة القطرية حيث اصطدمت الأحلام القومية الكبرى بالواقع الموضوعي. ومعه أصبح المشروع القومي أكثر تلازماً مع الموضوع الاشتراكي وقضايا التنمية الاجتماعية وتحدياتها. بعد هزيمة 1967 أصيب المشروع القومي بما يشبه الانهيار وبدأت سلسلة التراجعات البنيوية تصيب النظام العربي برمّته، حيث انتعش بعدها البديل الاسلامي.

تريد هذه المقدمة أن تقول إن «الأفكار»، وإن كانت من أكثر المنتجات القابلة للانتشار إلا أنها ليست المعطى الوحيد لتشكيل الهويات. التي لا يمكن بطبيعة الحال إلا أن تكون تعبيراً عن حاجات وأزمات سياسية وثقافية ومعرفية. فالهويات تحتاج لأفكار حيّة. وقد تلجأ إلى القديم منها أو الميت. لتثبث فيه الحياة من جديد؟ لكن هذا لا يكفي، فهي تحتاج دائماً إلى مغذيات وحواضن اجتماعية واقتصادية لكي تكتسب طاقة سياسية محركة. وتتحول إلى قوة تغيير حقيقية. وبالتالي، فإن الوعي بـ«الهوية» لا يأتي بالمطلق من خارج المجتمع أو من خارج سياق التاريخ. فهي لا تهبط من كوكب آخر ولا تأتي من خارج الزمن. فالهوية حركية مستمرة في التاريخ، تكتسب المعنى والمضمون كتجربة إنسانية خاضعة لصيرورة العيش والصراع وتحديات الواقع. إنها معطيات وعوامل تمنح الإنسان بصفته الفردية، والمجتمع كإطار تفاعلي للجماعة، الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك، بما يضمن استمرارية الجماعية ويحمي كيانها. وحين يضعف هذا الشعور ويسير في طريق الاضمحلال والضمور، تواجه الجماعة مصير التفكك. إن شيئاً من هذا أصاب الهوية العربية في الصميم، الأمر الذي يطرح عدداً من التساؤلات عن الأسباب التي أدت الى ذلك؟ وهل هي أسباب عرضية أم جوهرية؟ هل هي أسباب موضوعية تتعلق بالبنية الثقافية والاجتماعية العربية بحد ذاتها أم داخلتها واختلطت معها أسباب وعوامل خارجية، دفعت بالوعي العربي نحو منحدر هوياتي طائفي ومذهبي وإثني وقبلي، يعود الى إحياء كيانات ما قبل الدولة الوطنية؟

أولاً: الهوية القلقة والإرهاصات النهضوية‎ ‏

‏إن الفكر الإصلاحي الإسلامي ودعاة الجامعة الإسلامية «العرب» الذين أطلقوا بذور الفكر التنويري وأسسوا لمشروع إسلامي نهضوي، لم يتخلوا في مشروعهم عن الدولة العثمانية. وإنما القيادات القومية الأخيرة التي خرجت من قلب المؤسسة العثمانية أخذت في الابتعاد عن كل ما له علاقة سياسية أو ثقافية بالعرب. بما في ذلك الإسلام الذي أخذت تبتعد عنه تدريجياً في محاولة للتطبيع مع الحضارة الأوروبية. وكان من أبرز النتائج لهذا الأمر ذلك الارتباك الذي أصاب الإصلاحيين العرب. والذي يمكن قراءته في مسألتين: مسألة الانتماء القومي، والعلاقة الدينية بالعثمانيين عبر الخلافة، والتي كان إلغاء منصب الخليفة ذروتها.

والواقع أنه إذا كانت الجامعة الإسلامية قد طرحت كصيغة لـ«هوية» جامعة لإنقاذ الدولة العثمانية بكل مكوناتها السكانية في ذلك الحين. الا أنها لم تكن الصيغة الوحيدة التي طرحها الإصلاحيون الإسلاميون في ذلك الحين. فالأفغاني والشيخ محمد عبده وجدا فيها الحل المنشود بلا شك. ولكن السيد رشيد رضا، وإن كان منخرطاً في تيار الشيخين الرائدين كان له موقف من هذه المسألة تراوح بين ما سماه «خلافة الضرورة» المؤقتة وبين «خلافة الاجتهاد» التي يجب أن تمهّد لها بغية تحقيق التحام وثيق بين العرب والأتراك. وكان امتداد العمر بالشيخ رضا بعد أستاذيه، قد أحدث تحولاً بارزاً في فكره. ذلك التحول الذي لم تكن شخصية إصلاحية أخرى مثل الأمير شكيب أرسلان. الذي دافع طويلاً عن فكرته بعيداً منه. ليصبح بعد خيبة أمله بهم أكثر تمسكاً بـ«الإسلام العربي» شأن صديقه الشيخ رضاء حيث انتهى كلاهما إلى صيغة توفيقية بين القومية العربية والوحدة الإسلامية.

الأمر بالمعروف

لم يكن مشروع الجامعة الإسلامية إلا نوعاً من أنواع «الأمر بالمعروف» والموعظة الحسنة بالنسبة إلى الإسلاميين الإصلاحيين في ذلك الحين؛ ذلك أن مشروع الخلافة كان يدغدغ أحلامهم جميعاً، وصيغة «الجامعة الإسلامية» كانت بالنسبة إليهم مخرجاً واقعياً لحالة الضعف العثماني. وهي جاءت في سياق المألوف الذي ينسجم مع الذهنية الثقافية حينها، كما جاءت والسائد فقهياً وسياسياً. والذي يحدد أصول التعامل الشرعي مع الحاكم القائم بالأمر السلطاني؛ بيد أنها لم تكن الصيغة أو الجواب الوحيد. فقد سبقها وتزامن معها صيغ أخرى خالفت ما توطن عليه الفقه السني لقرون حول الموقف الشرعي الضابط لمسألة الخروج على الحاكم، والذي يفرض الطاعة لولي الأمر، ويكرس شرعية الولايات السلطانية، ويحرم الخروج والمنابذة بالسيف منذ أن كتب الماوردي «الأحكام السلطانية»، حيث استقر بعدها الفقه التقليدي على طاعة الحكام درءاً للفتنة، وصوناً للبلاد في وجه الغزاة. لقد تمثل هذا التيار الثوري في الخروج على الحاكم العثماني، حينها بالحركة الوهابية والحركة المهدية. على الرغم من أنهما تبنّيا فقهياً مبدأ الطاعة بالكامل وعمدا إلى تأصيله، وأجازا الخروج على الحاكم في حال أظهر كفراً بواحاً ظاهراً لا خلاف فيه.

ثمّة صيغتان حملهما الفكر الإسلامي في ذلك الحين تم تقديمهما على شكل مشاريع: مثّل الأول قطيعة كاملة مع الدولة العثمانية حاملاً رؤية إسلامية سلفية صافية؛ ومثل الثاني مشروعاً توفيقياً إصلاحياً اصطدم ببنية غير قابلة للإصلاح.

كان لزوال الخلافة الإسلامية، الذي ترافق مع تقاسم منظم للإرث العثماني. نتائج عديدة بعد الحرب العالمية الأولى منها الوجود المباشر لقوى الاستعمار وإرساء منظومة التجزئة في الوطن العربي. وإقامة الدول والممالك التي وضعت حداً نسبياً لفاعلية الأفكار الإصلاحية، التي بشر بها الافغاني ودفعت بمشروع الجامعة الإسلامية بعيداً، بل عطلت مشاريع الإصلاح والنهوض والتقدم التي كان يسعى إليها تلاميذه كذلك دفعت بمشروع الدولة السلفية الوليدة إلى مزيد من الواقعية. وحولتها من دعوة إلى دولة. وبذلك يكون الفكر الإسلامي قد انتقل إلى وضعية مغايرة، بحيث أصبح على مواجهة مباشرة ذات طابع هوياتي مع الثقافة الأوروبية؟ فمع زوال الخلافة الإسلامية ومرجعيتها الرمزية الإسلامية، نشطت الأفكار التي تنتسب إلى المرجعية الأوروبية؛ خصوصاً بعد التوسع الأوروبي الكاسح في المنطقة والهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية الكاملة. التي هيأت لها الظروف لتسويق جملة من الأفكار والمفاهيم التي اخترقت كثيراً من القيم الثقافية السائدة.

الدولة العربية الحديثة

مع قيام الدولة العربية الحديثة. في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين ظهر واضحاً قوة التغلغل الحاصل من قبل المرجعيات الثقافية الأوروبية وحجمه؟ فهي كانت قد رسخت وجودها عبر مؤسسات وأجهزة ونظم، مستفيدة من مرحلة التنظيمات العثمانية سابقاً، ثم مع قيام الدول الوطنية جرى بناء هذه الدول واختياراتها ومسالكها السياسية والاقتصادية والدستورية والتشريعية والاجتماعية والقانونية، بل وحتى المؤسسات والنظم والهيكليات الإدارية من داخل المرجعيات الأوروبية، من دون السماح بالاستفادة من منظومة الأفكار الإسلامية الإصلاحية التي جرى تطويرها وتم تقليص تأثيرها إلى أدنى مستوى. وأبقي على قدر ضئيل منها، لتوظيفه في السيطرة على المؤسسات الدينية ومتفرعاتها، وهو ما حدث مع المؤسسات الوقفية والأهلية والدينية.

تراجع مفهوم الجامعة الإسلامية، كمشروع لـ«هوية» جامعة. والذي اكتسب زخماً واسعاً مع السيد جمال الدين الأفغاني وأخذ مفهوم الجامعة العربية؟ يتعزز، مترافقاً مع انتشار الفكر القومي في أوروبا وانبعاث الروح القومية عند العرب، وظهور فكرة القوميات في تركيا وإيران والبلاد العربية؟ فبعد أن كان مشروع الجامعة الإسلامية ينطلق من ضرورة التكامل والتوحيد بين الشعوب والقوميات من (عرب وأتراك وفرس وهنود وأفغان…)، تحول مع الخطاب القومي الناشئ إلى مشروع تجزيئي بنظر الإسلاميين يستبدل مفهوم العصبية الدينية بمفهوم العصبية العرقية أو الإثنية.

انعكس ذلك على دعوة الإصلاح الديني. التي عمل عليها الإصلاحيون الإسلاميون، بفعالية مستفيدين بذلك من تراث الحركات السلفية الطرفية السابقة لها التي انبعثت في نجد والسودان وشمال أفريقيا منذ القرن الثامن عشر. لا شك في أن سلفيات التخوم تلك (المهدية والسنوسية…) رغم عدم نفاذ دعوتها إلى العواصم والمدن الكبرى. تركت أثر كبيراً حين أضافت فكرة العودة إلى النص وهي جوهر فكرتها. لقد كان الصراع الفكري الطاحن ضد البدع وتعبيراتها من طرق صوفية متخلفة. من أجل تكريس السنّة وسلطتها المرجعية. أول مظهر من مظاهر العمل من أجل الإصلاح الديني لدى النهضويين والسلفيين معاً. وعنوانه كان مقاومة آثار الانحطاط في وعي المسلمين عند الفئة الأولى، وتطهير الدين وتصحيح العقائد عن الفئة الثانية.

لقد مثل هذا التقاءً غيرَ مباشرٍ بين المشروعين؛ السلفي والنهضوي في ذلك الحين على مستوى التطلعات، قبل أن يعودا ويختلفا، في ما بعد، حول موضوعات الاجتهاد ومحتواه، وحدود إعمال العقل والتأويل في النصوص وقضايا التحديث بتنوعاتها. بالإجمال حدث افتراق تحول الى قطيعة بين تيارين: الصحوي المعاصر من جهة؛ والإصلاحي الحديث من جهة ثانية، بينهما تمايز بالخطاب أخذ يتعمق ويتشعب تدريجياً ليطاول الإشكالية ومناهج النظر والأهداف ووسائل بلوغها رغم أن ما جمعهما هو رفض الواقع القائم، والتطلع نحو تحقيق النهضة والانبعاث الحضاري للأمة. نستطيع اليوم أن تتذكر تلك السجالات بل وأن نستحضر تراث الإصلاحية الإسلامية في نقد الخطاب السياسي الديني كثيراً من الحركات الإسلامية المعاصرة، ونقد مبرراتها، بوصفه أحد أبرز منتجات نص الإصلاح الديني منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر لنكتشف أنه نص لا يزال يفرض نفسه على الفكر الإسلامي المعاصر في مقاربة جديدة تتجاوز ذلك الاستقطاب الأيديولوجي الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين.

تتمثل إشكالية «النهضة» باعتبارها قاعدة خطاب التيار الإصلاحي الحديث الذي دشنه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا وهي بحكم طبيعتها منفتحة على التماس أسباب النهضة من كل المرجعيات والمصادر التي يمكنها أن توفر للمشروع الإصلاحي النهضوي عوامل قوة واستمرار. بينما تمثل مسألة «الصحوة» قاعدة خطاب تيار الإسلام السياسي منذ حسن البنا إلى سيد قطب وتقي الدين النبهاني وصولاً إلى تفريعات سلفية متنوعة اليوم وهي بحكم طبيعتها أيضاً تنغلق على مرجعيتها الداخلية ومصادرها الذاتية. ولا ترى في صحوة المسلمين إلا عودة إلى الأصول النقية واللحظة التأسيسية. إنها مشدودة إلى الماضي في نظرتها إلى المستقبل. على عكس التيار النهضوي الإصلاحي المتطلع إلى المستقبل مستلهماً من الماضي ما يفيد مشروعه النهضوي.
الأربعاء 2 آب 2017 – العدد 6141 – صفحة 13 جريدة المستقبل اللبنانية

قراءة في كتاب “سوسيولوجيا الهوية” للدكتور عبد الغني عماد: هوية متنازع على مرجعيتها .. الأمة والجماعة المتخيّلة (4)

صدر «سوسيولوجيا الهوية، جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء» للدكتور عبد الغني عماد (عن «مركز دراسات الوحدة العربية» (بيروت)، وهو بحث مستفيض، ومعمّق، وتفصيلي، ومفرّع، يبحث فيه سؤال الهوية والثقافة.
ويناقش إشكاليات سوسيولوجيا الهوية والمقاربات المختلفة حولها، والتي أصبحت اليوم تخصصاً أكاديمياً في كثير من الجامعات، ليطرح رؤيته لما آلت إليه الهوية والثقافة في عالم يزداد تعولماً وتفككاً، وهو ما تجلى في أكثر من مكان، وعلى نحو كارثي في الوطن العربي حيث انفجرت عصبيات، وتورّمت وتضخّمت هويات مذهبية وإثنية، وتحوّلت الى ما يشبه «الوعي القطيعي»، لتتحول الى سياج لا يسمح للعقل باختراقها، ولـ«الجماعة» بأن تخرج من طوقه.
د. عبد الغني عماد، أستاذ وعميد سابق في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، صدر له نحو 38 مؤلفاً منها «حاكمية الله وسلطان الفقيه» (1998 و2005)، «ثقافة العنف: في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية» (2001)، «صناعة الإرهاب» (2003)، «الحركات الإسلامية في الوطن العربي» (2013)، «الهوية والمغايرة، السلفية والسلفيّون في لبنان» (2015).
ونفهم من خلال هذه الأبحاث والكتب الموجّهة نحو القضايا والإشكاليات، وحتى المعضلات، أنّ الباحث، يتمتع بثقافة سياسية وفكرية وسوسيولوجية وافية، تمحضه ثقة في تناول مثل هذه المواضيع الشائكة، والمركّبة، والمتداخلة والمتناقضة.
وفي فصول كتابه هذه نلمس هذه المراجعات التحيليلة والنقدية، ليس من منظور علمي حيادي موضوعي فقط، وإنما في اعتبار كل هذه المشكلات جزءاً من الانهيارات العربية، والأشكال القومية – الإيديولوجية – وبنيات الوحدة، والشرذمة، والتفكك، والانفجارات المدويّة لغرائز، ومكنونات، تحت سقوف ما يُسمى الهويات الدينية، أو الإثنية، أو القبلية، أو المذهبية.
كتاب جدير بأن يُقرأ وبإمعان كمرجع مهم.
نتابع هنا نشر الحلقة الثانية من الكتاب من الفصل الحادي عشر، الهوية العربية، إشكالية التشكل والتفكك.
ب.ش

كان واضحاً أن أولى الانعكاسات بدأت مع تراجعات السيد محمد رشيد رضا، آخر رموز الإصلاحية الإسلامية، وهو تراجع أصاب مجمل المسائل التي قررها نهوضويو والقرن التاسع عشر حول الاجتهاد وعلاقة الديني بالسياسي، والاجتماع المدني وموجبات تطويره… إلخ وكانت ذروة تعبيره عن ذلك التراجع، انفصاله عن منظومة الفكر السياسي الحديث، وموضوعة الدولة الوطنية التي أخذ بها الإصلاحيون منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر مع الطهطاوي، ثم مصالحته مع المنظومة الشرعية التقليدية، خاصة مع الماوردي وابن تيمية، وإعلانه مشروع الخلافة بالصيغة التقليدية نظاماً سياسياً نموذجياً للرد على الاحتلال الاستعماري لـ«دار الإسلام»، وعلى إلغاء مصطفى كمال الخلافة. كان ذلك التراجع انقلاباً شاملاً دمّر الفكرة الإصلاحية أو أتى عليها بالمحو وكانت له الآثار البليغة في فتح الباب أمام الانقضاض «الفكري» والسياسي الشامل على تراثها.
ولا يختلف الباحثون اليوم على أن هذا الانقلاب هو الذي فتح أوسع الأبواب وشرّعها أمام إنتاج مشروع «الصحوة» الإسلامية، الذي انطلق تياره مع مرشد «الإخوان المسلمين» الشيخ حسن البنا منذ الربع الثاني من القرن العشرين. ومع مشروع «الصحوة» سوف يخفت مشروع الإصلاح الديني وسوف يشهد نهايته الدراماتيكية على يد تيار من داخل المرجعية الإسلامية ذاتها، وليس من موقع نظر فكري غيري، كالموقع الليبرالي أو الحداثوي مثلاً، بل إن خصوم الإصلاحية والدعوة إلى الإصلاح الديني وأكثرهم من الإسلاميين ذهبوا إلى حد اتهام عبده والكواكبي بالسقوط في فخاخ الفكر الغربي والدسّ على الإسلام. أي أنهم عملياً، أسقطوا حجّية هذه اللحظة النهضوية الإصلاحية من تاريخ الفكر الإسلامي الحديث. مكتفين بالنظر إليها من حيث هي صدى لفكر الغالب في وعي المغلوب لا من حيث هي مساهمة اجتهادية في النظر إلى مسائل الإسلام والاجتماع السياسي الإسلامي.
كانت العناوين الأكثر تميّزا بين التيارين حول المصالحة مع العلم. والحقائق العلمية، دونما شعور بأن ذلك ينال من العقيدة ومن سلطة الإيمان والحقيقة الدينية ثم المصالحة مع النظام السياسي الحديث. والاعتراف بشرعية المصادر المدنية التي تقوم عليها الدولة الحديثة في مقابل وعي حادّ بهشاشة المسوغات التي تقوم عليها الدولة السلطانية، وأخيراً المصالحة مع فكرة نسبية الأفكار (وهي من ثمرات العلم الحديث) حيث كان مجرد الالتجاء، إلى أفكار «الآخر» والاستفادة منها، بل واعتقادها في بناء التصورات المستقبلية مرفوضاً ومـداناً، بل دليلاً على الشعور بأن المدونة الفكرية التقليدية لا تملك أجوبة حاسمة ونهائية عن كل المشكلات مما يفرض فتح باب
الاجتهاد والتجديد. وخلافاً للإصلاحية الإسلامية، ذهب الخطاب الصحوي والسلفي إلى مهاجمة العلم وتفنيده، ووضعه وضعاً حدّياً في مقابل الإيمان؟ بل ذهب إلى مقارعة فكرة الدولة الحديثة (المدنية والديموقراطية) بدعوى أنها دولة علمانية ملحدة مجافية للدين. داعيا إلى «الدولة الإسلامية» وإلى تطبيق الشريعة فقد كان في بداياته خطاباً مغلفاً على مرجعية واحدة ومتمحوراً حول الذات والهوية، يتصف بعدم الانفتاح على المنظومات المعرفية الحديثة منتدباً نفسه لمقارعتها من جهة وحراسة حقائقه المطلقة من جهة أخرى‎.
خطابا الهوية
ليس من شك في أن الخطابين معاً مثّلا موقفاً دفاعياً عن «الهوية» إزاء، زحف ظافر للفكر الحديث، غير أن الفارق بينهما كان في المنهج وفي طبيعة تلك الاستراتيجية الهويّاتية الدفاعية ومضمونها وأسلوبها، فقد اعتمد الإصلاحيون قاعدة الممكن وكانت الواقعية طريقا عقلانياً عندهم؛ فيما اعتمد الصحويون قاعدة الواجب مستلهمين تجارب التاريخ ومستسلمين الإغراء الطوبى. ولعل المفارقة المثيرة في هذا الشأن أن وعي الإصلاحيين كان أكثر قربا إلى الوعي السياسي من وعي «الصحويين» إليه، على الرغم من أن الإصلاحيين لم ينغمسوا كثيراً في السياسة، وفي الحزبية، كما فعل «الصحويون» بل ظلوا متمسكين بموقعهم الفكري كدعاة الى مشروع إصلاحي مجتمعي.
كانت الدعوة الإصلاحية بالأساس دعوة فكرية في المقام الأول تطلعت إلى صوغ مشروع فكري إصلاحي يتناول أوضاع العالم العربي-الإسلامي بالدرس والتحليل ويقترح معالجات له تصحح الخلل والاضطراب فيه وتفتح له طريق النهوض الحضاري عبر تحرير الوعي من الخرافة، والتقليد، ومن اجترار الشروح والحواشي والمختصرات، والدفع به نحو الاجتهاد والتجديد والابداع. أما الدعوة «الصحوية» فكانت – منذ نشأتها – دعوة سياسية في المقام الأول، فقد كانت معنية بالدرجة الأولى بصوغ مشروع سياسي قوامه استلام السلطة. وتطبيق الشريعة. وبناء الدولة الإسلامية. لم يكن المثقفون جيش هذه الدعوة. على نحو ما كان عليه الأمر في الدعوة الإصلاحية. بل كان جيشها من المناضلين الملتزمين بفكرتها السياسية: إقامة الدولة الإسلامية، وبالتالي كان نتاجهم الفكري في غالبه منصبا على هذا الهدف. لذلك كان رهان الإصلاحيين على المجتمع ووعيه ودوره في صناعة النهضة المطلوبة في حين كان رهان التيار «الصحوي». وكل تفريعاته الحزبية على الطليعة والصفوة المؤمنة. لذلك تركز جهده على الحزب. والسلطة. والدولة معتبراً أنها الأدوات المناسبة للخلاص من «مجتمع الجاهلية» وإقامة «المجتمع الإسلامي» البديل.
وقد رتب كل من الرهانين نتائج متباينة على صعيد استراتيجيات الدعوة. ووسائل القيام بها: اعتمدت الإصلاحية الإسلامية على التربية والتكوين والتثقيف. مداخل وظيفية لها، لبلوغ هدف نشر الفكرة الإصلاحية وبثّها في النفوس، وتحرير الوعي من عوائق التقليد والتأخر وراهنت – في ذلك – على قيام جيل إصلاحي جديد ينهض بعبء بناء وتحقيق مشروع نهضوي عربي ـ إسلامي؛ بينما اعتمدت «الصحوية» أسلوباً حزبياً تعبوياً استهدف التجييش، والتجنيد، والتحشيد للأتباع والمناصرين لتحقيق مشروعها السياسي.
الثورة الثقافية
وبقدر ما كان تعويل الخطاب الإصلاحي على «الثورة الثقافية» سبيلاً إلى النهضة، وكان الرهان على المجتمع ووعيه، هو جوهر مشروعها برمّته بقدر ما كانت حركة «الاخوان المسلمين» في بدايتها، بزعامة مرشدها حسن البنا (تلميذ رشيد رضا) محاولة لاستئناف «التعبير السياسي» عن الهوية الثقافية الإسلامية. غير أنها انتهت عملياً في مشروع حزبي قطع مع منطلقاتها وأهدافها الأولى. لتفتح الطريق بذلك أمام أطروحة صحوية سياسية سوف تشكل مقدمة لفكر القطيعة مع الإصلاحيين الإسلاميين، والتي سوف تنضج على يدي «الجيل الثاني» للإخوان (سيد قطب وشقيقه محمد…). والمجموعة التي عملت على المزاوجة بين أفكار أبي الأعلى المودودي والإسلام السلفي التقليدي. كانت مقولة «الحاكمية» ذروة التعبير عن هذه القطيعة. فهي بعد أن أودت نهائياً بفكرة الدولة الوطنية والمدنية. ولّدت ثقافة التكفير والعنف واستخدام فكرة الجهاد في الداخل. لذلك لم يكن مستغرباً أن ينأى بنفسه عن الانتماء إلى هذا المسار كثير من الرموز الثقافية والقيادات وبعضها كان جزءاً من حركة «الاخـوان المسلمين» حينها، مفضّلاً العودة إلى أفكار المؤسس حسن البنّا، وبناء موقف نقدي من المرحلة القطبية وما بعدها. بينما اختار بعضهم إعادة وصل ما انقطع من العلاقة بالفكرة الإصلاحية.
الخطاب القومي العربي
لا شك في أن صعود الخطاب القومي العربي قد عاق تطور المشروع الصحوي الإسلامي، لكن طوباوية هذا المشروع وتعويله على الثورة السياسية منهجاً وأسلوباً، وانغلاقه على المصادر الثقافية الذاتية قد فرض عليه أن يكون خطاباً شمولياً يختزل الثقافة في السياسة، والمجتمع في الدولة مما أجهض كثيراً من أحلامه، الا أن الدولة الوطنية التي احتكم بعضها إلى الخطاب القومي وبعضها الآخر الذي لم يجد نفسه مضطراً إلى الاحتكام سوى إلى منطق الاستيلاء، على السلطة بقوة العسكر والقبائل والطوائف كرست حياة سياسية فارغة من أي مضمون فكري أو سياسي وأخلاقي. وفاشلة إلى حد الافلاس على المستوى التنموي والاجتماعي ومدمرة إلى حد سحق كرامة الانسان العربي على مستوى الحريات وأسهمت إلى حد كبير بإمداد المشروع الصحوي الإسلامي بعناصر جديدة يتغذى منها مجدداً.
هكذا انفتحت الطرق أمام التيار الإسلامي الصاعد نحو تقديم نفسه كبديل حيث اقتصرت مهمته على تبيان الأخطاء والنقائص وتعميمها على خصومه. ميلاد المشروع السياسي الإسلامي المعاصر وتقديمه لـ«الهوية» الإسلامية كبديل تحت شعار: الإسلام هو الحل. يقترن بتراجع الخطاب القومي العربي أولاً، وفشل مشاريع التحديث والتنمية العربية بكل تجاربها وملامحها الايديولوجية المختلفة ثانياً. من هذا المنطلق نستطيع أن نفسر لماذا لم يؤدِّ تراجع الحركة القومية العربية إلى تدعيم «الهويات» الوطنية في الوطن العربي، لكنه بالعكس واكب عودة الشعور الإسلامي ليكتسح من جديد قطاعا واسعا من الوعي بالهوية باعتباره منبعاً للشعور بالذاتية الحضارية التي تتجاوز الانتماء الوطني للدولة، والتي بسبب هزالها وفشلها لم تعد تبدو مقنعة كمصدر قيم وتنظيم للشعور الجمعي والولاء، من جهة، وعاجزة عن تشكيل أي بديل حضاري في المدى المنظور من جهة ثانية.
في قلب هذا الحراك «الهوياتي» شهدت تلك المرحلة ما يشبه الاحتراب والسجال المفتوح ما بين المشروعين الإسلامي والقومي، انخرط فيها مفكرون وقوى وأحزاب وتيارات. تناولت قضايا فكرية وسياسية عديدة كانت ولا تزال تعد من المسائل الاشكالية والخلافية في «الفكر العربي والإسلامي المعاصر» تناولت قضايا العلاقة بين الدين والدولة والمواطنة والعلمانية وحقوق الانسان والمرأة والاقليات والجهاد والعنف والمعارضة وغيرها من المسائل التي بقي كثير منها قيد النقاش على الصعيد الفكري والسياسي بين النخب والتيارات. لكن الاهم أنها بقيت خارج أي انتظام حواري على مستوى الانظمة السياسية العربية وخارج أي تفاعل نقدي يحولها على مستوى الممارسة إلى منتح فكري جديد. وهكذا بقيت هذه التيارات ومعها شرائح واسعة في خنادقها الايديولوجية القديمة.
خلاصة القول إن بذور الاختلاف والتنوع حول مرجعيات الهوية الثقافية العربية، بكل اتجاهاتها وتياراتها، ليست إلا استئنافاً، بكيفيات مختلفة، لتلك الحقبة وتحدياتها. ويمكن للمتابع والدارس، اليوم، أن يجد في صفوف الإسلاميين من يذهب الى تبني منهج التجديد والاصلاح، ناهلاً من تراث الإصلاحيين الأوائل، كما يجد بينهم السلفيين الوهابيين الذين حافظوا على نقاء الفكرة النجدية بصورتها الأولى، كما يجد منهم من قام بمزاوجتها مع الفكر الاخواني أو القطبي، ليعيد انتاجها على شكل سلفية مسيسة ومتحزبة، أو سلفية جهادية على نموذج القاعدة أو تنظيم الدولة. وبالتالي ليس في وسعنا أن نغامر ونستنتج أن المشروع السياسي الإسلامي المعاصر قد بلور هوية ما؛ فثمة أكثر من هوية معاصرة اليوم للمشروع الإسلامي في علاقته بالدولة، والتي بمجملها تقيم الدولة على المرجعية الدينية، وإن كانت تختلف فيما بينها الى حد التناقض في تفسيرها لمضمون هذه المرجعية، ودلالاتها، وحدودها، ومصادرها، وإمكان الاستفادة من مرجعيات أخرى.
فالنسخة الجهادية، تقطع مع مفهوم الدولة بصيغته «الجاهلية» المعاصرة وتضع أولوية «الجهاد» على رأس مهامها لإقامة «حكم الله» ونظام الخلافة؛ فمع سيد قطب تأسس مفهوم هوياتي للحكم والدولة في الإسلام يقوم على مرجعية العقيدة فقط، صاغه بما يناقض أي هوية أخرى: «جاء الإسلام.. ليرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين، وشائج اللحم والدم، فلا وطن للمسلم الا الذي تقام فيه شريعة الله… ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في الأمة المسلمة في “دار الإسلام”.
النسخة الإيرانية
أما النسخة الايرانية التي مثلت في بدايتها مصدر إلهام للحركات الصحوية الإسلامية، فتطرح هوية إسلامية على مرجعية المذهب، فتقطع مع «الأمة» وولايتها ببعدها التوحيدي لتعيد بناء مفهوم الأمة على قاعدة انقسامية، هويتها ومرجعيتها الأساس تتمثل بالانتماء الى المذهب، ولتؤسس بناء عليه نظرتها الى الدولة على منظومة «ولاية الفقيه العامة»، التي تقيم سلطة دينية تتمتع بالهيمنة الكاملة، بل وبصلاحية «التكليف الشرعي» الذي يمتد الى خارج حدود الدولة حيثما يوجد الشيعة المتصلون وجوباً بالمرشد «الولي الفقيه».
أما الصيغة الإخوانية التأسيسية فقدمت خطاباً هوياتياً خالصاً، وإن كان بالممارسة أكثر براغماتية في مقاربته لمسائل المواطنة والتعددية والمشاركة، وقد نجح في تجربته التركية المطورة في تقديم نموذج ديموقراطي لم يستفد منه كما يجب بين الإسلاميين العرب، وهو لا يزال أمام امتحان الدولة والإنجاز في تونس والمغرب وفلسطين (غزة)، إلا أنه فشل في صيغته وتجربته المصرية الأم.

في الخلاصة نحن أمام خطاب هوياتي ديني متمذهب، يقيم دعواه على أساس النصوص المتشكلة تاريخياً، ويتطلع لإنشاء «الدولة – النموذج» استناداً الى مرجعيتها، ويستحضر لتحقيق هذا الهدف كل العدة المعرفية المساعدة لإحياء الهوية الإسلامية الصافية، وكل حسب فهمه لها وتفسيره لمضمونها. ومع تعدد الأفهام والتفاسير في دائرة جاء فيها أصل التشريع عاماً، ساد منطق التكفير والتبديع، وضاقت مساحات الحوار والاجتهاد، وفقد المشروع الإسلامي هويته التوحيدية والنهضوية، وخاصيته التأسيسية، التنويرية والتحررية، لتخرج الحصيلة هويات دينية متمذهبة، غارقة في احتراب فكري وسياسي، مستعيدة خصومات وجدالات تاريخية مذهبية وفقهية عقيمة، يجري استخدامها وتوظيفها في الصراعات السياسية التي حوّلتها الى هويات قاتلة ومتوحشة.
الخميس 3 آب 2017 – العدد 6142 – صفحة 13 جريدة المستقبل اللبنانية

أضف تعليق