قراءة في كتاب د. لويس صليبا:لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي؟ بقلم الدكتور عبد الغني عماد

 بقلم الدكتور عبد الغني عماد

بمناسبة عيد الاستقلال يعود بنا الصديق والباحث البروفيسور لويس صليبا في كتابه حول اشكالية اعلان لبنان الكبير إلى مناقشة الأسس التي قام عليها لبناننا، طارحاً كعادته الأسئلة الحرجة محاولاً ولوج بعض من المسكوت عنه في تاريخنا الاشكالي. هل ثمة غلطة ارتكبت حين ركب هذا الكيان لا تزال تجرجر حروباً وأزمات؟ هل كنا نفبرك وطناً ثم نبحث له عن تاريخ وفلسفة وقومية؟ أي لبنان هذا الذي أراده مؤسسوه وبأي حدود وموزاييك وطوائف وسكان وهواجس.. تلك هي القصة والمأساة، وحكاية الوطن التي نجتمع برعاية نادي بجة الثقافي والرياضي لمناقشتها.. فألف شكر لكم جميعاً.

يتألف هذا الكتاب من أربعة أبواب، في الأول منها يتناول المرحلة الانتقالية من المتصرفية إلى لبنان الكبير، وفيها يعرض لتبلور مشروعين لهذا اللبنان مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تبلور الأول في كتابات ومواقف بطريرك الروم الارثوذكس غريغوريوس حداد المؤيد للحكومة العربية الفيصلية في دمشق والرافض لأي تقسيم والثاني كان على النقيض منه مؤيداً لدولة لبنان الكبير ومعارضاً للمشروع الفيصلي العربي كما عبر عنه البطريرك الياس الحويك.

يخصص المؤلف الباب الثاني لشخصيات لبنانية وفرنسية بارزة عارضت هذا الخيار (لبنان الكبير) وكان بين هؤلاء من يدعو إلى لبنان الصغير، أو إلى تعديل مشروع لبنان الكبير يمثله سليمان البستاني وروبير دوكيه (المعاون الأساسي لغورو ونائبه)، في المقابل كان هناك تيار أيضاً يدعو لكي يكون لبنان جزءاً من فيدرالية سورية يمثله جبران خليل جبران وكاترو وميلران وغيره من الجانب الفرنسي.

الباب الثالث يبحث في اعلان لبنان الكبير وردود الفعل عليه ويركز في احد فصوله على الأوساط الارثوذكسية والخلفية الاقتصادية والديموغرافية لموقفها الرافض له متوقفاً عند بعض الشخصيات ومنها نجيب سرسق (أول من أطلق شعار لبنان خطأ تاريخي) قبل أن يعود ليكيف نفسه مع هذا الخطأ، وهو الشعار الذي ورثه الاسرائيليون كما يشير الباحث إلى ذلك بنظرة ثاقبة.

الباب الرابع خصصه المؤلف ليرسم صورة هذا اللبنان الكبير وكيف كان يصارع من أجل البقاء من جهة ويبحث عن هوية في نفس الوقت.

نرى باحثنا في هذا الباب يعود إلى قصة علاقة البطريرك حداد بالأمير فيصل وعلاقة البطريرك الحويك بالجنرال غورو ليستخرج منها مزيداً من الدلالات، فيتوقف مثلاً عند مشاريع ضمّ وادي النصارى إلى لبنان، ويفند هذه الروايات التي تطلق برأيه للقول بأن البطريرك الحويك فضل السنة تارة أو الشيعة تارة أخرى على الروم في وادي النصارى؟ يؤكد باحثنا أن ما من وثيقة تشير وإن تلميحاً إلى أي مشروع من هذا النوع، فلا عرض على البطريرك ضم الوادي ولا هو فكر بذلك ولا الفرنسيون كانوا في هذا الوارد والقصة كلها مجرد أقاويل واشاعات!! وبتقديري هذه الخلاصة تحتاج إلى مزيد من التدقيق التاريخي لأنها غير محسومة؟!

كذلك يناقش باحثنا في هذا الكتاب ما يسميه اسطورة السعي لبناء وطن متعدد الانتماءات والسائدة في كثير من الأوساط المارونية. إذ يردد بعضهم ان البطريرك الحويك اختار عن سابق تصور وتصميم أن يضم لبنان خليطاً من الطوائف كي لا يتحول إلى وطن مسيحي الطابع كي لا ينبذ في محيطه أو يتحول كياناً على شاكلة اسرائيل اليهودية التي لم تكن قد ولدت بعد؟

وواقع الحال غير ذلك فوثائق ذلك الزمن بين يدي باحثنا تكشف أنه سعى إلى كسب الجغرافيا وإن أدى ذلك إلى اختلال في الديموغرافيا، فالوطن في وجدانه ومفهومه كان جبلاً وسهلاً ومرافئ وكحد أدنى لكي يكون قابلاً للعيش والاستمرار وفي الذاكرة المجاعة في الحرب العالمية الأولى وأهوالها حاضرة دائماً.

تكشف وثائق الحويك ورسائله إلى المسؤولين الفرنسيين أنه حتى 1926 وفي عز أيام الثورة السورية الكبرى وفي العام الذي وضع فيه الدستور اللبناني كان البطريرك يتحدث في رسالة إلى وزير الخارجية الفرنسي اريشيد بريان Briand عن لبنان المسيحي مقابل سوريا المسلمة، وعن لبنان الملجأ لكل مسيحيي الشرق، رافضاً التنازل عن أي جزء من لبنان الكبير لمصلحة سوريا المسلمة، داعياً بوضوح إلى تبادل سكاني اسلامي – مسيحي بين لبنان وسوريا.

هذه الوثيقة حسب باحثنا تكذب كل الادعاءات والمزاعم من مارونية وغيرها، والقائلة أن البطريرك حويك سعى إلى وطن متعدد الانتماءات الدينية، بل انها تبين بوضوح أنه عمل مع فريقه على ادارة لبنان الكبير بذهنية لبنان الصغير، مما لا يعكس إدراكاً حقيقياً لعمق التغييرات التي طالت هوية الكيان الجديد والتي نتجت عن الانتقال من لبنان المتصرفية إلى لبنان الكبير، وهي التي حذره منها سليمان البستاني السياسي المسيحي العثماني المخضرم وروبير دوكيه الدبلوماسي الفرنسي.

في الفصل الأخير ينقل وللمرة الأولى وثيقة قدمها اميل إده في ايلول 1932. ورغم ان هذه الوثيقة لا تحمل توقيع اميل إده إلا أن المؤشرات التي يستحضرها باحثنا تجعله يؤكد، وبشكل موضوعي ومنطقي أن صاحبها هو اميل اده، ويقترح فيها التخلي عن طرابلس شمالاً وجبل عامل جنوباً للتخلص من أكثريتين والعودة بلبنان إلى أكثرية مسيحية طاغية. الوثيقة مقدمة إلى الخارجية الفرنسية وتتضمن معطيات تدل بشكل واضح على أن هاجس الديموغرافيا والفوبيا من التوازن السكاني بين المسلمين والمسيحيين بدأ يصبح أقوى من جاذبية الجغرافيا التي كانت وراء مشروع لبنان الكبير.

يقارن الباحث في الخاتمة بين طرحين ومنطقين: بتبادل سكاني اقترحه البطريرك الحويك وتخل جغرافي إرتآه إده. أيها كان الأقرب إلى الواقع أو الصواب؟

هل جاء اقتراح اده صحوة متأخرة بعد أن سبق السيف العزل؟ وهل كان طرح البطريرك الحويك اقراراً ضمنياً بخلل ما بدأ يتسرب إلى وعيه في استراتيجيته وسعيه الدؤوب إلى لبنان الكبير؟

ثمة بعض الملاحظات الإستكمالية لا بد منها لهذه القراءة  النقدية المتميزة والشجاعة التي قدمها الدكتور صليبا والتي نجح فيها بتحقيق قدر عال من الموضوعية والحيادية في معالجة وتحليل مواقف القيادات المارونية والاورثوذكسية ، مما جعل الكتاب مركزاً في اعلان لبنان الكبير على تداعياته ضمن الملعب المسيحي دون أن يتوقف بما يكفي من التحليل عند باقي الأبعاد الوطنية التي تتعلق بباقي مكونات الإجتماع اللبناني والتي سبب لها هذا الإعلان غير المرفق بأية ضمانات قلق وجودي وأثار عندها الكثير من الهواجس والمتاعب، وبطبيعة الحال أتفهم حرص الباحث على عدم الإستفاضة، لكن ذلك بالنتيجة قدم صورة لهذا الحدث الكبير من منظور واحد يختص بتداعياته المسيحية. لذلك لا بد من تسجيل بعض الملاحظات:

أولاً:   في الواقع خلق إعلان “دولة لبنان الكبير” وضعاً جديداً في المعادلة السكانية، حيث لم يسبق للموارنة والمسلمين (السنة والشيعة) التفاعل سياسياً واجتماعياً كما كان الحال مع الدروز، إذ أصبح الواقع الجيوسياسي على الشكل التالي: مجموعتان طائفيتان كبيرتان تختلفان في النظرة الإيديولوجية والاستراتيجية لهذا الكيان الوليد المدعو “لبنان الكبير”. وهو خلاف وصل إلى حدوده القصوى مع سياسة الانتداب الفرنسي الذي حدد هدفين غير قابلين للتوافق، أولهما محاولة الحفاظ على الوحدة السياسية والإدارية للبنان، والثاني ألا يصل ذلك إلى حد تمكين الطوائف من القدرة على معارضة الانتداب والاستقلال عنه. وكان هناك هدف ثالث يشترك به مع الانكليز ضمناً وهو استغلال الوقائع الطائفية والأمنية وقضايا الأقليات لمواجهة صعود تيار الوحدة العربية آنذاك  ما يجعله- أي الإنتداب الفرنسي- في حالة انحياز واضح لصالح الفريق المسيحي فيه.

ثانياً : صحيح أن أعلان دولة لبنان الكبير غيًر في المعطيات الجيوسياسية والاستراتيجية والسكانية لكنه لم يكن معزولاً سياقاته الإقليمية ، وصحيح أيضاً أنه أوجد نوعاً من الإنقسامات والإصطفافات الطائفية وأطلق الهواجس والمخاوف عند الجميع، لكن الجوهري: هل بقي الوضع على حاله أم شهدنا تطوراً في المواقف الرافضة للدولة الوليدة عند المسلمين والمسيحيين؟؟؟ .  جواباً نقول : في الواقع لم تكن ذهنية الدولة الوطنية قد تشكلت بعد في المنطقة وهذه نقطة هامة يجب أن لا تسقط من حسابنا وأغلب الإعتراضات على لبنان الكبير جاءت من ذهنية ما قبل تشكل الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة. وهي اعتراضات لم تكن ضد لبنان حصراً، بل كانت ضد المشروع التقسيمي الأجنبي الهادف الى ضرب المشروع العربي وضد التقسيم الذي تعرضت له المنطقة على يد الحلفاء المنتصرين حينها. انه اعتراض له حيثياته وسياقاته، عبرت عنه حينها قوى ومصالح وايديولوجيات، ولا يمكن بحال من الاحوال اعتبارها ازلية وثابتة، ومثلما لا يمكن اعتبار التمسك بالإنتداب الفرنسي واعتباره ضمانة مبدأ ثابت وأزلي إذ أن له أيضاً حيثياته وسياقاته، عبرت عنها أيضاً قوى ومصالح وايديولوجيات،  وبالتالي لا يمكن التشكيك بوطنية أي من الطرفين بسببها .

   ثالثاً :  هذا الكتاب يؤكد بأن تاريخ لبنان الحديث كدولة ووطن بحدوده المعترف بها اليوم وحتى بعد اعلان لبنان الكبير لم يكن متبلوراً ونهائياً من الناحية العملية، فقد كان النقاش لا يزال حامي الوطيس عن أي لبنان نريد داخل كل طائفة، ولا فضل لطائفة على اخرى بهذا الأمر، ولا يمكن الإدعاء أن المسلمين أو المسيحيين كانوا على رأي واحد من مشروع لبنان الكبير، لذا من الخطأ الوقوع في آفة التعميمات المتسرعة، إذ يجب الإقرار بنظرنا أن الوعي بالوطن كدولة وسيادة وحدود  كما هو اليوم بدأ يتبلور بشكل تدريجي منذ العام1920 عند كل الطوائف وتكرس في العام 1943 مع الميثاق الوطني والاستقلال عند الجميع، وليس في ذلك اي عيب او انتقاص من لبنانية أحد . وبالنسبة  للمسلمين فإن تبلور البعد الوطني اللبناني في وعيهم الاسلامي لم يحدث بشكل مفاجىء أو مفتعل كما أنه ليس موضوع مستجد على الإطلاقً كما يدع البعض، وهناك الكثير من الحقائق التاريخية التي تؤكد ذلك، والتي تحتاج الى شيء من التفصيل في دراسات أخرى..

  رابعا:  في هذا الاطار يجب قراءة ذلك الاختلاف والتباين في النهج السياسي بين بعض الزعامات والبيوتات الاسلامية السياسية في مواقفهم من لبنان الكبير بين مؤيد ومعارض، كآل شرف الدين الشيعة ممثلين بالمرجع السيد عبد الحسين وآل الأمين ممثلين بالسيد محسن الأمين، او بين آل الجسر ممثلين بالشيخ محمد الجسر الذي شغل منصب رئاسة مجلس النواب وكاد يصبح اول رئيس مسلم للجمهورية بما يشبه الاجماع المسيحي الاسلامي حينها، لولا ان قام الانتداب بحل مجلس النواب لقطع الطريق على هكذا خطوة ، وبين آل الكرامي ممثلين بالمفتي عبد الحميد كرامي، الذي كان يخوض معركة لاهوادة فيها ضد الدولة الوليدة وضد الانتداب ويرفض اي تعاون معه، او حتى تلك الرسالة الشهيرة لكاظم الصلح ( الإنفصال والإتصال) والمدعومة من عادل عسيران بعد مؤتمر الساحل عام 1936، والتي تحمل ذلك الوعي الاسلامي المبكر في معنى الوطنية اللبنانية، بل وفي  ” لبننة العروبة ” وإضفاء المعنى اللبناني للعروبة الحضارية المنشودة. وهنا من الواجب القول أنه من السذاجة نعت هذا او ذاك من هؤلاء بالعمالة للانكليز او للفرنسيين على شاكلة بعض التحليلات السطحية، فقد كانت هذه التنوعات في المواقف حينها تعبيرات سياسية تعكس بحق بداية انخراط النخب الاسلامية والمسيحية  في الممارسة السياسية وفي الحياة الوطنية اللبنانية واندراجها في البحث عن جوامع مشتركة على مستوى الوطن مع بقية الطوائف. وهنا يبرز الميثاق الوطني ومعركة الاستقلال كعلامات على هذا النضج، وكمحصلة لمسار تطور الوعي الوطني عند كافة النخب الاسلامية اللبنانية من رياض الصلح الى صائب سلام وعبد الحميد ورشيد كرامي، الى صبري حمادة وعادل عسيران وآل الاسعد والزين والخليل وغيرهم.

لكل ذلك لايمكن القفز فوق حقيقة ان المسلمين ارتضو لبنان وطنا فعليا وحقيقياً، سراً وعلناً ، وطناً نهائياً ، حملته قبل الطائف قوى وشخصيات ونخب، وكرسته بعد ذلك، بشكل لا يقبل التشكيك، نصا في الطائف، ودما في الدفاع عن ربوعه وحدوده في مواجهة العدو، وعن قراره المستقل وسيادته في انتفاضة الاستقلال التي تفجرت اثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري وما تلاها من سلسلة اغتيالات .

خامسا : ينبغي الإعتراف أن منطق السعي إلى الغلبة والهيمنة، الذي جربته الطوائف اللبنانية في حالات انتفاخها كان كارثياً على الجميع،  وفي تجربة “المارونية السياسية” الغابرة، رغم ما توفر لها من عدة فكرية وثقافية وخطاب جمع بين الانفتاح والتعددية والقدرة على الاستيعاب والهيمنة والحريات والتحديث المحدود والدعم الخارجي المفتوح، ما يفيد أنها فشلت في تجديد النظام وقادت البلد إلى الإنهيار والكارثة، رغم ما في هذه التجربة الكثير من العبر والدروس التي تفيد أن عوامل  الهيمنة والتفرد والقوة الآحادية الجانب لأية طائفة في لبنان ليست كافية لحكمه أو حتى السيطرة على قراره، يبدو خطاب الأقليات ومنطقها لا يزال يمارس إغراءه لإنتاج المزيد من الصيغ الطائفية “المتفردة”.  بل والأخطر من ذلك فإن هذا الخطاب المتحصن بشعارات ” الحقوق المسلوبة ” و ” الغبن ” و الاضطهاد ” راح يتنامى ويتعمق مع اطروحات مؤدلجة طائفياً ومذهبياً وممؤسسة حزبياً ومعسكرة ميليشياتياً، لامس خطاب بعضها حدود العنصرية تجاه الآخر في حالات التحريض والحشد العصبوي المكشوف.

العبور الى دولة المواطنة يحتاج إلى شجاعة ومقاربة نقدية جديدة من داخل البنى الطائفية القائمة ومن خارجها، ولم يعد مقبولاً مداراة التضخم الذي يعيشه الخطاب الطائفي في لبنان عموماً، وبأي قناع تستر أو تخفى، حتى ولو لامس المقدس ، فللجميع مقدساتهم، وللجميع حقوقهم، ولا يجب أن تكون لأي طائفة حقوق أو امتيازات على حساب الوطن الذي هو فعل الانتماء الجامع والمشترك بين جميع أبنائه.

في النهاية اشكركم على اتاحة الفرصة لي لكي التقي بكم واتحدث بهذه المناسبة الوطنية مكرراً شكري للإخوة الأصدقاء رئيساً وأعضاء في نادي بجة الثقافي

 

نادي بجة الثقافي – جبيل 21-11-2018

أضف تعليق