حفريات تربوية وسوسيولوجية بين تعدد النظريات واخفاق التطبيقات – قراءة في كتاب علم اجتماع التربية للدكتور عبد الغني عماد

حفريات تربوية وسوسيولوجية بين تعدد النظريات واخفاق التطبيقات – قراءة في كتاب للدكتور عبد الغني عماد

مراجعة: الدكتور عبد الحكيم غزاوي·

الكتاب : علم اجتماع التربية : الاتجاهات والمدارس والمقاربات. منتدى المعارف، بيروت، 2017( 153ص)

    يشكل كتاب الدكتور عبد الغني عماد، أستاذ العلوم الاجتماعية والعميد السابق لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، اضافة نوعية متميزة الى مؤلفاته العلمية الغزيرة والتي تشكل بتكاملها مشروعاً فكرياً نقدياً لحال مجتمعاتنا وواقعها الأليم، فمن سوسيولوجيا الثقافة إلى إشكاليات الهوية والمعرفة والدين، يصدر مؤلفه في علم اجتماع التربية الاتجاهات والمدارس والمقاربات ليستكمل من خلاله حفرياته المعرفية المعمقة مقدماً لنا تحليلاً نقدياً كاشفاً لتعدد النظريات وتناقضاتها من جهة وإخفاق التطبيقات وقصورها من جهة أخرى في الحقل السوسيولوجي التربوي. وهو إنتاج علمي جديد يقدمه المؤلف مستوعباً الأدب النظري السوسيولوجي في حقل التربية دون الوقوع  تحت سطوة مدارسه الغربية التي يدرسها ويقدمها من مصادرها بسلاسة وبأسلوب تحليلي ونقدي يتجاوز بمنهجيته التكاملية الطروحات التقليدية المتواترة في مقاربة المسألة التربوية العربية وإشكالياتها، وهو ما يشكل محاولة جادة للخروج من مأزق التكرار والتبني للجاهز ومتاهة التقليد والمحاكاة والتماهي الفكري مع منتجات الغرب ومدارسه المتعددة والمتنوعة.  

  يذهب الكتاب منذ البداية إلى اعتماد منهج النقد والتفكيك وإعادة البناء محاولاً تقديم قراءة جادة ورصينة ومعاصرة للفكر السوسيولوجي التربوي في اطار جدلية التفاعل بين عناصر الحياة التربوية ليقدمها لنا في نسيج تتضافر فيه رؤية فلسفية وعلمية تتصف بالعمق والمعاصرة. فالكتاب رغم عرضه للنظريات التربوية السائدة باتجاهاتها المثالية والليبرالية والمادية يتجاوز الاستعراض النظري، إذ يقدمها على أرضية الاختبار التطبيقي ونتائجه من جهة، ويضعها تحت مبضع النقد والتحليل، مقرراً منذ البداية أن يتفرد في انتاج مداخل مركبة ومتجددة لفكر تربوي يمكنها ان تغني وتضيف من واقع الحياة العربية الإسلامية وخصوصياتها ما يجعل التربية العربية في حالة تفاعل مع منتجات العقل الإنساني في عصر العولمة وفي نسيج فكري تتكامل فيه الحداثة التربوية بمعطيات الواقع السوسيولوجي للمجتمع  العربي بكل ما ينطوي عليه من اشكاليات.

  • مقاربة جدلية في كواليس التربية والمجتمع

  في هذا الكتاب نجد أنفسنا، إزاء مقاربة جدلية ومركبة للتربية، متشبعة بحداثة لا تتعارض مع خصوصيات مجتمعها، بالقدر الذي تتكامل فية مع كل منتجات العقل التربوي المعاصر، في قالب يضع الأسس التربوية الثلاثة ( الإنسان المجتمع والتربية) في علاقة جدلية تكاملية كأصول تتفرع منها الفروع وعلى قاعدة الانطلاق المنهجي من الماكرو الى الميكرو في بحثه حول إشكالية التربية التي كتب عنها كثيراً. لذا جاء منهج الكتاب يبحث أولا في ماهية التربية واشكالياتها مبتدئا من الجذور ومتتبعاً تاريخ تطورها ودورها في رقي المجتمعات وبناء الحضارات ليتسنى للقارئ معرفة ما نتج عن هذا التطور من تباين واختلاف في فلسفتها وأساليبها وأهدافها، كاشفاً معالم ومخاطر البعد الواحد للتربية مبرزاً أهمية التربية الشاملة التي تسعى إلى تحقيق التوازن والتكامل بين الاركان الثلاثة للتربية في كل العصور.   

 يناقش الكتاب المداخل الجديدة في سوسيولوجيا التربية ومفاهيمها النظرية والتطبيقية  ومصطلحاتها الإجرائية وخطواتها المنهجية. فهو لا يجادل في أهمية التربية ومحوريتها في حياة الشعوب وتاريخ الحضارات، لكنه يتوقف عندها بحكم طبيعتها التي تشكل منظومة غاية في التعقيد، سواء بسبب علاقتها المتشابكة مع ما يؤثر فيها من عوامل خارجية متأتية عن منظومات اجتماعية أخرى، أو بسبب العناصر المتداخلة المنبثقة من حركتها الداخلية بين المعلم والمتعلم والمادة والمنهج، وما استجد ويستجد من طرق ووسائل تزداد يوماً بعد يوم تطوراً وتحديثاً في منهجيات نقل المعرفة وتوصيلها. والحال أن المجتمعات كانت دوماً تتطلع إلى تطوير نظم التربية فيها، دون أن يكون هناك طريق واضح ومحددا لذلك، هكذا كانت إشكالية التربية حائرة معرفياً تتنازعها مداخل عدة بدءاً بفلسفة العلوم ونظرية المعرفة وصولاً إلى علم النفس وعلم الاجتماع.

   لعل الطموح الذي تتطلع إليه التربية في رأي المؤلف يشكل أحد معالم إشكاليتها، فهي تسعى إلى الجمع بين تلبية حاجات الفرد ومطالبه من جهة، وتلبية حاجات المجتمع ومطالبه من جهة ثانية، بين تحرير الفرد وإطلاق قدراته وتنمية إرادة التغيير لديه من جانب، وبين أن تفرض عليه أنماطاً وقوالب محددة من الانضباط والانقياد لحفظ استقرار المجتمع وتطوره من جانب آخر. لذلك تبدو المهمة الصعبة أمامها في إيجاد التوازنات بين الخاص والعام، بين ما يحبه ويرغبه الأفراد ومتطلبات السوق والعمل، بين حاجات المجتمع التنموية ورغبات السلطة وارغاماتها الايديولوجية، وهي تناقضات ممتدة إلى مجالات وأبعاد مختلفة في فلسفة التربية ووظائفها تبدأ بالروحي والاخلاقي والمادي لتتصل بالتقليد والحداثة، إلى التوفيق بين مبدأ تكافؤ الفرص والحاجة للتنافس، أو التوسع في المعارف والقدرة على استيعابها…الخ.

   والواقع أن نقد التربية ومؤسساتها ليس جديداً، لكنه كان يجري في الغالب وكأنها كيان مستقل بذاته، لا صلة له بالبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لذلك اهتم علم اجتماع التربية، وخاصةً في توجهاته الحديثة، في بلورة الأبعاد الاجتماعية المتعددة والمؤثرة في النظام التربوي بقدر اهتمامه بدراسة ديناميكيات عملية التربية ذاتها.

  • بين الماكرو والميكرو قراءة تفكيكية لاشكاليات التربية

   وهذا الكتاب في فصوله الستة إذ يناقش أبرز تلك الإشكاليات المعاصرة التي يدور حولها النقاش والسجال في الأدبيات النظرية الحديثة لسوسيولوجيا التربية، إنما يقدمها في إطار نقدي وجدلي نظراً لما اثارته هذه الاتجاهات والمدارس النظرية التي تشكلت على ضوئها، والتي لا تزال حتى اليوم تتمتع بجاذبية معرفية للحوار والنقاش والسجال.

   الفصل الأول يطرح إشكالية تطور الفكر التربوي ومساراته بين الفلسفة والتاريخ والعلم، وصولاً إلى عصر المعلومات وما يفرضه من رؤى جديدة في هذا الحقل المعرفي. في حين يذهب الفصل الثاني إلى تحديد مجال التربية في علم الاجتماع متتبعاً تأسيس الحقل العلمي من خلال أبرز ما طرحه الرواد المؤسسون في علم الاجتماع تحت عنوان التربية في السياق المجتمعي.

   يتبنى الكتاب تصنيفاً ثلاثي الأبعاد للاتجاهات والمقاربات النظرية في مجال سوسيولوجيا التربية، فيطرح في الفصل الثالث الاتجاه الوظيفي مناقشاً نظريتي التحديث ورأس المال البشري، وفي الفصل الرابع الذي يتمحور النقاش فيه حول المقاربة الراديكالية والاتجاه النقدي، حيث يتم طرح الأطر النظرية والعملية التي تأسست حولها أطروحات صمويل بولز وهربرت جنتز، كما مايكل أبل، وايفان ايلش، وباولو فريري، وبيار بورديو. في حين يخصص الفصل الخامس لعلم اجتماع التربية الجديد تحت عنوان من الماكرو إلى الميكرو، فيعرض لأطروحة ريمون بودون في المنهجية الفردانية، كما يناقش المقاربات الفينومينولوجية، والتفاعلية الرمزية، والاتنوميتودولوجية في المنظور الجديد للتربية، ويتوقف عند مايكل يونغ ونظريته في علم اجتماع المعرفة التربوية.

 يطرح المؤلف في الفصل السادس تحت عنوان ” سوسيولوجيا البحث العلمي والباراديغم التربوي الجديد ” مسائل تتعلق باخطر ما يتصدى له علم اجتماع التربية الحديث، ويتجسد ذلك عبر خلق البيئات العلمية الملائمة لانتاج المعرفة والبحث العلمي في الإنتاج والتطوير، وهو ما يعكس ازدياد الاهتمام بعلاقة التعليم بسوق العمل وبالمساءلة، والجودة، والإنتاجية، وأيضاً بالتاثيرات المتوقعة ” للثورة الرقمية “، التي سادت الحقبة الأخيرة من القرن العشرين وطالت فلسفة التربية والتعليم برمتها. فما يسمى اليوم “المجتمع الرقمي” و” المجتمع الشبكي”  إنما يعني في دلالاته العميقة ثورة معرفية طالت في الصميم البيئة التعليمية في مرتكزاتها الاساسية، بحيث دخلت مفاهيم وأدوات مجتمع المعرفة الى قلب بيئة التعليم من أوسع أبوابها وتنوعت أوجه استخداماتها وتأثيرها ما بين تطوير تقني لهذه البيئات وتحسين لخصائصها ووظائفها من جهة  وبين المناهج والمضامين التعليمية المعتمدة من جهة اخرى.

  • الاشكاليات المعاصرة لسوسيولوجيا التربية على ضؤ البراديغم الجديد

لهذه الاسباب يرى المؤلف ان عملية التربية والتعليم بصورة عامة والتعليم العالي بصورة خاصة شهدا في كثير من بلدان العالم خاصة الغربية منها خلال العقدين الأخيرين حركة إصلاح جذرية تمثلت في إدخال مفاهيم جديدة مثل مفهوم التقويم المتعدد أو التقويم البديل ومفهوم معايير الجودة والاعتماد الأكاديمي، والتعليم عن بعد، والتعليم المفتوح، وازداد التوجه نحو تمهين التعليم لتحقيق التميز لدى الخريج الجامعي الذي يسمح له بمواجهة التحديات التي يفرضها القرن الواحد والعشرون. تطلب ذلك عملياً الانتقال من براديغم الفعل التلقيني في العملية التربوية بإتجاه براديغم جديد يقوم على الفعل لإابداعي والتعلم المستمر.  

وقد استدعى هذا الإصلاح إعادة النظر شاملة في عملية التقويم التقليدية التي كانت تكتفي باختبارات الورقة والقلم، واسترجاع المعلومات والتذكر، فضلاً عن اختبارات إجابات الصواب والخطأ التي لا تقيس إلا المعارف والمستويات الدنيا من التفكير، لتشمل كل مرافق المؤسسة التعليمية بمدخلاتها ومخرجاتها، شاملة بذلك الفاعل التربوي والأداء التدريسي لعضو هيئة التدريس، والمنهاج، والمواد التعليمية، والمناخ التعليمي، والنشاطات الطلابية، والخدمات الطلابية، والمرافق والتجهيزات، والمختبرات، والمكتبة، والتنظيم داخل المؤسسة والإدارة وغيرها، والذي لا ينفصل عن قياس فعالية ومحصلات العملية التربوية برمتها لجهة ربط التقويم بالمخرجات والنواتج وبالواقع من خلال قياس مدى اكتساب الطالب للكفايات والمهارات اللازمة لأداء مهام فعلية في الحياة المهنية.

   يعرض الكتاب الأطر النظرية التي واكبت إنتاج المعرفة العلمية الحديثة فيذهب مع روبرت ميرتون في تحليله ل “روح العلم” إلى تحديد أربع منظومات والتي هي بنظره من الضرورات الإلزامية وتتمثل ب العمومية أولاً وفيها يتم ضمان تقويم المعرفة الجديدة وفق المعايير الموضوعية واللاشخصية، والشيوع ثانياً الذي يتيح للعلم أن يتقدم كمشروع تعاوني، ذلك أن المعرفة هي ملك الجميع، وحقوق الملكية التي يتمتع بها العالم هي لأغراض الاعتراف واحترام العمل الجيد، أما الحيادية  ثالثاً فهي ضمان للجودة والنزاهة والإنجاز، لأنها تفرض على العلماء أبعاد أحكامهم المسبقة، كما مصالحهم وحاجاتهم وقيمهم ومواقفهم، كي تخرج أعمالهم بعيدة عن الغش والتزوير. يتحدث رابعاً وأخيراً عن الشك المنظم الذي يسقط القداسة عن العالم وظواهره، فجميع الأشياء في العلم، سواء أكانت مادية أم غير مادية، خاضعة للدراسة الموضوعية.

ومع كارل بوبر في كتابه “منطق الاكتشاف العلمي”  يبرز نهج مختلف للتحقق العلمي من النظريات في إطار مناقشته لنمو المعرفة العلمية، منذ ان صاغ مبدأ إثبات الزيف بدلاً من مبدأ إثبات الصدق أو قابلية التحقق.

إلا أن إطروحة توماس كون تميزت برؤية جديدة للموضوع، فقد إستطاع في قراءته للثورات العلمية أن يقدم قراءة غنية، أثارت ولا تزال نقاشاً واسعاً منذ الربع الاخير من القرن الماضي. فهو في طرحه لمفهوم ” الباراديغم”  أو  “النموذج الإرشادي”، كشف عن قوانين إنتاج العلم كعملية تاريخية ممتدة وكقوة اجتماعية فاعلة .وقد اغناها أنطوني غيدنز في دراسته للكوابح الكامنة والنشطة في الحقل العلمي والتربوي مما اضاف فائدة كبيرة بينت ان المؤسسات التربوية والتعليمية والبحثية، لا يمكنها أن تنفصل عن البنية الاجتماعية في حركتها نحو التشكل وإعادة التشكل، يولد معها بالمحصلة الباراديغم الجديد. وهذا الوعي بدوره لا يتشكل على هذه الصوره كنشاط ذهني منفصل بقدر ما يكون نتاجاً للحركة الجدلية الدينامية المجتمعية.

  اصبح التلازم بين الثورة العلمية وعمليات البحث والتطوير والتنمية والتقنية من جهة، والثورة التربوية والمعرفية من جهة أخرى أكثر ترابطاً في العصر الراهن من أي وقت مضى، لأن الثورة التربوية هي أساس الثورة العلمية أبرز مخرجاتها تتمثل بتطويع التقنيات وتعميمها لتشمل كل مناحي الحياة، ما يحولها إلى قوة تولد معها معرفة جديدة.

في هذا الإطار يرى المؤلف أن الجهاز المفاهيمي القديم لم يعد صالحاً لتحليل حركة الاقتصاد والمجتمع والثقافة والتعليم والإعلام،  لذلك يذهب مع أطروحة مانويل كاستلز في “صعود المجتمع الشبكي”  الى أبعد مدى متسائلاً على ضوئها ما هي السبل للنهوض بإنتاج المعرفة في البلدان العربية؟ وما هي الوسائل التي تمكننا من توطين العلم من دون الوقوف عند استيراد بعض تطبيقاته ونتائجه؟ إن الاستقراء التاريخي لتطور العلم في الحضارة العربية وحضارات العالم ينتهي بنا إلى استخلاص أن العلم لم يتأسس ويتطور إلاّ بعد أن أنشئت المؤسسات الخاصة به في أول الأمر. كذلك ليس هناك نشر ممكن للثقافة العلمية من مجتمع إلى مجتمع آخر – بواسطة الترجمة أو نقل العلماء وما إليه – من دون أن تعد البنية الأساسية اللازمة لاحتضان العلم وتوطينه . فأوروبا على سبيل المثال لم تكن لتقدر على الاستفادة من المعارف العلمية، في بداية الثورة الصناعية، لو لم تعمم التربية العلمية وتنشرها من جهة، ولو لم تنشىء البيئات المؤسساتية الحاضنة لها من جهة أخرى.

 وتحت عنوان ” رؤى مستقبلية  ماهي فرصتنا؟ ” يطرح المؤلف معالم استراتيجية تربوية عربية تتجاوز المفهوم الوظيفي للتربية الذي يساهم في  تكريس التباين الطبقي والاجتماعي والثقافي، والذي لم يعد معه التعليم وسيلة مضمونة  للتحرر من الفقر ولا وسيلة آمنة  للترقي الاجتماعي،  بقدر ما أصبح أداة لتقنين عدم المساواة والمحافظة على الفروق الاجتماعية والطبقية والثقافية الموجود بل وإعادة إنتاج شروط استمرارها.

    يرفض المؤلف القول بأن التعليم أداة موضوعية وحيادية لتصنيف الناس وانتقائهم حسب مهاراتهم المعرفية، اذ يعتبره قول يقلب الحقائق ويترتب عليه نتيجة إيديولوجية مؤداها أن نجاح الفرد في المجتمع أو فشله مرهون بنجاحه أو فشله في المدرسة. وذلك القول ينطوي على إقناع زائف للمواطن بأن شكل المجتمع وبنية النظام الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه بريئة تماما من أي فشل يتعرض له، فالفشل إنما سيكون فشله هو نفسه في اقتناص الفرصة المتكافئة التي توفرت له في المدرسة.

   يعتبر المؤلف في أهم خلاصاتة أِن النتائج المغلوطة التي سوف تترتب على مثل هذا المنهج تذهب الى اعتبار أن مشكلة الفقر التي تعاني منها الطبقات الدنيا في المجتمع هي مشكلة فقر في امتلاك المعرفة وليست مشكلة استغلال وتهميش اقتصادي وتفاوت بنيوي تعاني منه هذه الطبقات. وبالمثل فإن مشكلة التخلف في الدول الفقيرة ستصبح مشكلة تربوية تعالج عن طريق الإصلاح التربوي وبالتالي يتم اخفاء حقيقة التخلف وأسبابه في دول العالم الثالث والذي هو نتيجة نهب استعماري تاريخي (ظاهر ومستتر) وتبعية اقتصادية وسياسية مستمرة ناتجة عن هيمنة النظام الدولي على مقدرات الشعوب وثرواتها.

   في المحصلة إن المساواة المفترضة التي روجت لها المدرسة التربوية المعولمة من خلال نظريتي التحديث ورأس المال البشري والوعود الكبيرة التي بشرت بها، أفضت إلى نتائج معاكسة تأكدت في فشل النظام التعليمي في تأدية دوره في الحراك الاجتماعي أو تحقيق النقلة الاجتماعية للأفراد الملتحقين به، بل أدت إلى مزيد من التمايز الاجتماعي والطبقي والثقافي ساعد على اتساع الفجوة  بين الفقراء والأغنياء إلى جانب قيامه بترسيخ الهيمنة وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية السائدة في مجتمعاتنا التقليدية والمحافظة عليها.

  واذ كان  تطبيق الديمقراطية وتكافؤ الفرص في نظامنا التربوي والتعليمي شرطاً ضرورياً للنهوض، فانه في الواقع يواجه صعوبات كبرى تبدأ بغياب حقوق الإنسان، وغياب المواطنة الحقيقية، ولا تنتهي بإقصاء الكفاءات العاملة. وخلاصة القول: يتبين لنا، من هذا كله، أن التربية ترتبط ارتباطا جدليا بالديمقراطية. فلا يمكن الحديث عن تربية حقيقية إلا في مجتمع ديمقراطي، يؤمن بحقوق الإنسان وحرياته الخاصة والعامة.

  يتصف هذا العمل بغزارة افكاره وسجالاته المعمقة والمراجع والمصادر العلمية الحديثة الأجنبية والعربية التي يستند عليها، فضلاً عن التقارير العلمية والإحصائية الصادرة عن المؤسسات الدولية والعربية الموثوقة في تحليله لسوسولوجيا البحث والتطوير في العالم العربي، على الرغم من ان بعض مباحثه جاءت مكثفة بصورة قد تعيق القارىء العادي، كما ان المباحث المخصصة لتحليل مسارات التربية في عالمنا العربي لم تلحظ بما يكفي التعليم العالي والطفرة المرضية التي يشهدها وحالة الانفصام بين التعليم الخاص والعام التي يعانيها، الا انها تناولتها بمنهجية صارمة ومعمقة .  

   أهمية هذا الكتاب تتمثل بكونه يقدم مداخل نظرية أساسية في سوسيولوجيا التربية، إذ لم يعد بمقدور أي مقاربة جادة الاستغناء عن الأطر والمداخل النظرية والتحليلية والانكباب المباشر على المبحث الحقلي والميداني مفصولاً ومعزولاً عن رؤية منهجية ونظرية تسهم في تعميق التحليل السوسيولوجي وإغنائه بكل أبعاده. لذلك فهو يشكل إضافة نوعية إلى المكتبة العربية ويمثل إنتاجا فكريا يعبر عن إرهاصات فكر نظري متجدد يسعى إلى تسجيل حضوره الإبداعي والمتقدم في عصر العولمة والحداثة والتقانة المتقدمة.

 ( نشرت في مجلة منارات ثقافية_ مجلة اكاديمية تعنى بالعلوم الإنسانية والاجتماعية_ الكتاب الخامس/ تشرين الثاني/نوفمبر 2018)

 

  • استاذ علم اجتماع التربية ومدير معهد العلوم الاجتماعية ( الفرع الثالث ) في الجامعة اللبنانية . abdulhakimfouad1957@gmail.com

أضف تعليق